وقد اختُتمت المرحلة الأبرشية من دعوى تطويب خادم الله البابا مار يوحنا بولس الثاني يوم الإثنين 2 نيسان 2007 الذي يصادف الذكرى الثانية لغياب البابا الراحل.

* * *

وبعد صدور التشخيص، لاقيت صعوبة كبيرة في مشاهدة يوحنا بولس الثاني على شاشة التلفزيون. ولكنني كنت قريبة جدّاً منه في الصلاة وكنت على يقين من أنّه يفهم معاناتي. وفي الوقت عينه، كنت أعجب لما يتحلّى به من قوة وشجاعة كانتا تحثّانني على النضال وعلى حب هذه المعاناة، لأنه لم يكن من معنى لهذه الآلام من دون حب. ويمكنني القول إنني كنت أخوض صراعاً يوميّاً ولكن رغبتي الوحيدة كانت بأن أعيشه في الإيمان وبأن أرضخ بحب لمشيئة الآب.

وخلال فصح العام 2005، أردت أن أشاهد الأب الأقدس على شاشة التلفزيون لأنني في داخلي كنت أشعر بأنها المرة الأخيرة التي سأراه فيها. فأمضيت صبيحة ذلك اليوم أستعدّ لهذا اللقاء وأنا أدرك كم أنّ ذلك سيكون صعباً بالنسبة إليّ (إذ إنّه كان يذكّرني بما ستؤول إليه حالتي بعد بضع سنوات). وكان ذلك غاية في الصعوبة بالنسبة إليّ باعتبار أنني لا أزال شابّة نسبيّاً. ولكنّ أمراً طارئاً حدث في عملي حال دون أن أتمكن من رؤيته.

وفي مساء الثاني من نيسان 2005، فيما كنّا مجتمعات في الجماعة لنتابع مباشرةً من روما أمسية الصلاة المقامة في ساحة القديس بطرس من خلال قناة التلفزيون الفرنسية "كاتو" (KTO ) التابعة لأبرشية باريس، علمتُ وأخواتي خبر وفاة البابا يوحنا بولس الثاني. فأحسستُ وكأنّ العالم انهار من حولي. فها أنا أفقد صديقاً، ذاك الذي كان يفهمني ويعطيني القوة للمضيّ قدماً. وفي الأيام التي تلت، شعرتُ بفراغ هائل ولكن في الوقت عينه كنت أشعر وكأنه لا يزال حاضراً.

كنت في ذلك الحين في إجازة. وبعد انقضاء فترة استراحتي عدتُ في السادس والعشرين من أيار وقد أضناني المرض واستنفذ كلّ قواي. إلاّ أنه كانت آية من إنجيل يوحنا تسكن كياني منذ تاريخ الرابع عشر من أيار وهي تقول: " إن آمنتِ ترين مجد الله".

في الأول من حزيران كنت قد وصلت إلى أسوأ حالاتي فتراني أعاني لمجرّد المشي والوقوف على رجليّ. وبعد ظهر الثاني من حزيران ذهبتُ لملاقاة رئيستي لأطلب منها وقف نشاطي المهني. فطلبت منّي أن أصمد قليلاً بعد إلى حين عودتي من الحجّ في لورد في شهر آب، مضيفةً: "يوحنا بولس الثاني لم يقل كلمته الأخيرة بعد". وخلال لقائي مع الرئيسة، كان يوحنا بولس الثاني حاضراً في حوارنا الذي جرى في جوّ من السلام والصفاء. فناولتني قلماً وطلبت مني أن أكتب إسم "يوحنا بولس الثاني". كانت الساعة الخامسة مساءً. فكتبت إسم "يوحنا بولس الثاني" بصعوبة ما بعدها صعوبة. فبقينا لبرهة صامتات ساكنات أمام خطّي غير المقروء. وانتهى النهار كما غيره من الأيام.

بعد صلاة المساء في الساعة التاسعة، مررتُ بمكتبي قبل أن أعود إلى غرفتي. كانت الساعة بين التاسعة والنصف والعاشرة إلاّ ربعاً. فانتابتني رغبة ملحّة بأن أتناول قلماً وأكتب. وكأنّي بشخصٍ يهمس لي: "خذي قلماً واكتبي". وكم كانت مفاجأتي كبيرة عندما ألفيتُ خطّي واضحاً مقروءاً! إلاّ أنّي لم أفهم الأمر جيّداً وخلدتُ للنوم. وكان البابا يوحنا بولس الثاني قد فارقنا منذ شهرين بالتحديد ليرقد إلى جوار الآب. عند الساعة الرابعة والنصف صباحاً إستيقظتُ مندهشةّ لكوني تمكّنت من النوم. فوثبتُ من السرير من دون أي آلام أو تشنّجات، حتّى أني في الداخل لم أعد الشخص ذاته. فإذا بصوت داخلي لا بل قوة داخلية تدفعني إلى أن أتوجّه إلى أمام القربان المقدس للصلاة. فتوجّهتُ إلى الكنيسة ورحتُ أصلّي أمام القربان المقدس. وقد غمرني سلام كبير وشعور بالراحة لا يوصف، بل سرّ تعجز الكلمات عن تفسيره أو التعبير عنه. بعدئذٍ، مكثتُ أمام القربان المقدّس أتأمّل في أسرار يوحنا بولس الثاني المشعّة. وعند السادسة خرجتُ لملاقاة أخواتي في الكنيسة لفترة صمت يليه القداس والإفخارستية. وكان عليّ أن أقطع مسافة 50 متراً لكي أصل إلى هناك. وهنا بالذات لاحظتُ أنّ ذراعي اليسرى تتمايل على هدى مشيتي، على عكس ما جرت العادة، حيث كانت تبقى جامدة على طول جسدي. وأحسستُ أيضاً بخفّة في جسدي، خفّة ومرونة لم أألفهما منذ زمن. وخلال الإحتفال بالإفخارستية، كانت تلفّني فرحة عارمة وسلام ما بعده سلام. كان يوم الثالث من حزيران، ذكرى عيد قلب يسوع الأقدس. وعند خروجي من القدّاس كنت مقتنعة بأني شُفيت... فيدي لم تعد ترتجف بتاتاً. فهرعتُ إلى الكتابة مجدداً وعند الظهر توقّفت فجأةً عن تناول أي دواء.

لقد انقضى عشرة أشهر منذ توقّفت عن تناول علاجي. وقد استعدتُ نشاطي الطبيعي وأنا أكتب من دون أدنى صعوبة وعدتُ إلى القيادة من جديد على مسافات طويلة. ويمكنني القول إن ذلك أشبه بولادة ثانية لا بل بحياة جديدة لأنّ شيئاً لم يعُد كما في السابق.

واليوم يمكني القول إن صديقاً قد غادر بعيداً عن هذه الأرض ولكنه قريب من قلبي أكثر ممّا يمكن تصوّره. لقد أشعل فيّ رغبة عبادة القربان المقدس وحب الإفخارستية لدرجة أنّهما أصبحا اليوم يحتلاّن مكانة أساسية في حياتي اليومية.

ما وهبني الربّ أن أعيشه وأختبره بشفاعة يوحنا بولس الثاني هو سرٌّ تعجز الكلمات عن شرحه قدر ما هو كبير وقويّ...ولكن ليس عند الله من مستحيل. فصحيحٌ أنّ "إن آمنتِ ترين مجد الله".