الفاتيكان، 1 مارس 2007 (zenit.org). – ننشر في ما يلي رسالة البابا بندكتس السادس عشر لليوم العالمي الثاني والعشرين للشباب بعنوان: "أحبوا بعضكم بعضاً كما انا أحببتكم".
أيها الشباب الأعزاء، بمناسبة اليوم العالمي الثاني والعشرين للشباب، الذي سيُحتفل به في الأبرشيات في أحد الشعانين المقبل، أود أن أتأمل معكم بكلمات يسوع: "أحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم" (يو 13، 34).
هل الحب ممكن؟
لدى كل شخص الرغبة في أن يحِب وأن يُحب. وعلى الرغم من ذلك، كم من الصعب أن نُحِب، وكم من الاخطاء والإحباطات تمر بها المحبة! لدرجة أن هناك من يشكك في إمكانية الحب. وإذا ما كان النقص او خيبات الأمل العاطفية تجعلنا نظنّ بأن المحبة هو أوتوبيا، فهل يجب الاستسلام؟ كلا! الحب ممكن، وهدف رسالتي هذه هو الإسهام في إحياء الثقة بالحب الحقيقي، الأمين والقوي، لدى كلّ واحد منكم، أنتم، مستقبل وأمل الإنسانية. إنها محبة تولِّد السلام والسعادة؛ محبة تربط بين الأشخاص، وتشعرهم بالحرية في الاحترام المتبادل. لنقم معاً، من خلال ثلاث نقاط، بمسيرة "لاكتشاف" المحبة.
الله، ينبوع المحبة
الفكرة الأولى تتعلق بينبوع المحبة الحقيقي، الفريد: إنه الله. وهذا ما يظهره جلياً القديس يوحنا بقوله: "الله محبة" (1 يو 4، 8-16)؛ وهو لا يريد أن يقول فقط بأن الله يحبنا، بل أن الله نفسه هو ينبوع المحبة. نحن إذن أمام ظهور منير لمصدر المحبة الذي هو السر الثالوثي: في الله، الواحد والثالوث، هناك محبة أبدي متبادل بين شخصي الآب والإبن، وهذا المحبة ليست طاقة أو شعوراً، وإنما هي شخص، إنها الروح القدس.
صليب المسيح يُظهر بالكامل محبة الله
النقطة الثانية في تأملنا هي: كيف يظهر لنا الله-المحبة؟ بيد أن علامات المحبة الإلهية ظاهرة في الخليقة، بلغ ظهور سر الله ملأه في التجسّد، عندما صار الله إنساناً. في المسيح، الإله الحقيقي والإنسان الحقيقي، عرفنا ملء المحبة. في الواقع، "إن حداثة العهد الجديد الحقيقية، كما جاء في Deus caritas est ، لا تكمن في الأفكار الجديدة، وإنما في صورة المسيح نفسه، الذي يعطي لحماً ودماً للمفاهيم – في واقعية لا مثيل لها" (رقم 12). إن ظهور المحبة الإلهية يبلغ كمال ملئه على الصليب، كما يؤكد القديس بولس: " أما الله فقد دل على محبته لنا بأن المسيح قد مات من أجلنا إذ كنا خاطئين" (روما 5، 8).يمكن لكل واحد منا أن يقول دون خوف: "المسيح احبني وبذل نفسه لأجلي" (أفسس 5، 2). افتدانا بدمه، وأحبنا جميعاً بحب شغوف وأمين، حب بلا حدود. الصليب، جهالة للعالم، وفضيحة لعدد كبير من المؤمنين، ولكنه "حكمة الله" لمن يشرّعون له الابواب ليلمسهم في عمق أعماقهم، "لأن الحماقة من الله أكثر حكمة من الناس، والضعف من الله أوفر قوة من الناس" (اقور 1، 24-25). المصلوب، الذي بعد القيامة يحمل علامات آلامه، يكشف عن "التزييف" والأكاذيب حول الله. المسيح هو حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم ويقتلع الكراهية من قلب الانسان. هذه هي "ثورته" الصادقة: المحبة.
أن نحب القريب كما المسيح أحبنا
ننتقل النقطة الثالثة في تأملنا. على الصليب صرخ المسيح: "أنا عطشان" (يو 19، 28): يظهر بذلك عطشاً ليُحِب ويُحَب من قبل كل واحد منا. فقط إذا توصلنا الى فهم عمق وأهمية هكذا سر، نعي حاجة وضرورة أن نحبه بدورنا "كما" أجبنا. وهذا يعني ايضاً – إذا لزم الامر – أن نضحي بحياتنا من أجل إخوتنا. في العهد القديم قال الله: "أحب قريبك كنفسك"، ولكن حداثة المسيح تكمن في أن المحبة على مثاله تعني أن نحب الجميع، دون تمييز، حتى الاعداء، "والى النهاية" (أنظر يوحنا 13، 1).
شهود لمحبة المسيح
أود أن أتوقف الآن عند ثلاثة أمكنة من الحياة اليومية، انتم مدعوون فيها، أيها الشباب الاعزاء، الى إظهار محبة الله. المكان الأول هو الكنيسة، عائلتنا الروحية المؤلفة من جميع تلاميذ المسيح، وهو الذي قال: " ويعرف الناس جميعاً أنكم تلاميذي إذا أحبَّ بعضكم بعضاً" (يو 13، 15)، عززوا، باندفاعكم ومحبتكم، نشاطات الرعايا والجماعات والحركات الكنسية وفرق الشبيبة التي تنتمون إليها. إجهدوا في البحث عن خير الآخر، في الامانة لالتزاماتكم. لا تترددوا في التخلي بفرح عن سلوَتِكم، إقبلوا بطيبة قلب التضحيات الضرورية، إشهدوا على محبتكم الأمينة ليسوع معلنين إنجيله خاصة بين أترابكم.
التحضير للمستقبل
المكان الثاني الذي انتم فيه مدعوون للتعبير عن المحبة والنمو فيها هو: استعدادكم للمستقبل الذي ينتظركم. إذا كنتم مخطوبين، يكمن مشروع محبة الله في كونكم زوجين وعائلة ومن الضروري إذن أن تكتشفا مشروع المحبة هذا متكلين على مساعدة الكنيسة، ومتحررين من الاحكام المسبقة المنتشرة القائلة بأن المسيحية، من خلال وصاياها وأحظارها، تقف عائقاً في وجه سعادة الحب وتحول دون ان يتمتع الشخص بالسعادة التي يبحث عنها كلّ من الرجل والمرأة في حبهما المتبادل.إن حب الرجل والمرأة هو أساس العائلة البشرية، والزوجان المؤلفان من رجل وامرأة، يجدان جذورهما في تصميم الله الاساسي (تكوين 2، 18-25). التعرف على المحبة كزوجين هو مسيرة رائعة، تتطلب تمرساً وجهداً. فترة الخطوبة، الضرورية لبناء الزوجين، هي فترة انتظار وتحضير، تُعاش في عفة التصرفات والألفاظ.كلّ هذا يساعد في النضوج في المحبة، في الاهتمام والانتباه للآخر؛ يساعد في السيطرة على الذات، في نمو احترام الآخر، وكلّها من خصائص المحبة الحقيقية التي لا تبحث بدرجة اولى عن اكتفائها الذاتي ولا عن راحتها الخاصة. في صلاتكم المشتركة، أطلبوا من الرب أن يحفظ ويُنمي محبتكم ويطهرها من كلّ أنانية.لا تتردوا في الإجابة بسخاء على نداء الرب، لأن الزواج المسيحي هو دعوة صادقة وحقيقية في الكنيسة. وفي الوقت عينه – أعزائي الشبان والشابات، كونوا مستعدين لتقولوا "نعم" إذا دعاكم الله لإتباعه على طريق الكهنوت أو الحياة المكرسة. مثالكم سيشجع كثيرين من أترابكم الذين يبحثون عن السعادة الحقيقية.
النمو في المحبة كل يوم
المكان الثالث للجهود التي تتطلبها المحبة هو الحياة اليومية بمختلف علاقاتها. وأعني بنوع خاص العائلة، المدرسة، العمل والوقت الحر. أيها الشباب الاعزاء، إعملوا على تنمية مواهبكم ليس فقط لتكسبوا موقعاً اجتماعياً، وإنما ايضاً لمساعدة الآخرين "على النمو". طَوِّروا قدراتكم، ليس فقط لتصبحوا اكثر "منافسة" و "إنتاجاً"، وإنما لتكونوا "شهوداً للمحبة". الى جانب التنشئة المهنية، تعمّقوا في المعرفة الدينية التي تساعدكم في تأدية رسالتكم بطريقة مسؤولة.وادعوكم بنوع خاص الى التعمق بعقيدة الكنيسة الاجتماعية لتنير، بمبادئها، نشاطاتكم في العالم. وليجعلكم الروح القدس خلاّقين في المحبة، مواظبين في التزماتكم ومقدامين في مبادراتكم، لتساهموا في بناء "حضارة المحبة". أفق المحبة غير محدود: إنه العالم أجمع!
"الإقدام على المحبة" على خطى القديسين
أيها الشباب الاعزاء، أود أن أدعوكم الى "الإقدام على المحبة"، وأن لا تقبلوا في حياتكم سوى محبة قوية وجميلة، قادرة على أن تحوّل الوجود كلّه الى تحقيق هبة ذواتكم لله وللإخوة، متمثلين بالذي – بواسطة المحبة– انتصر الى الأبد على الكراهية والموت (رؤيا 5، 13). المحبة هي القوة الوحيدة القادرة على تبديل قلب الإنسان والبشرية جمعاء، حيث تثمر العلاقات بين الرجال والنساء، بين الأغنياء والفقراء، بين الثقافات والحضارات. كل هذا يظهر في حياة القديسين – أصدقاء الله الحقيقيين – الذين يعكسون هذه المحبة المميزة.اجتهدوا في التعرف عليهم، أطلبوا شفاعتهم، امتثلوا بمثل حياتهم. أتوقف فقط عند الام تريزا التي أرادت أن تلبي نداء المسيح "أنا عطشان" – صرخة لمستها في العمق – فبدأت بجمع المنازعين في طرقات كالكوتا في الهند. ومنذ ذلك الحين، باتت رغبة حياتها أن تروي عطش محبة يسوع ليس بالكلام وإنما بأفعال حسية واقعية، ناظرة الى وجهه المشوه، في وجوه أفقر الفقراء: "في كل مرة تفعلون هذا لأحد إخوتي هؤلاء الصغار، فلي أنا فعلتموه" (أنظر متى 25، 40). رسالة هذه الشاهدة المتواضعة للحب الإلهي انتشرت في العالم بأكمله.
سر المحبة
أعطي لكل واحد منا، أيها الاصدقاء الأعزاء، القدرة ليصل الى هذه الدرجة من المحبة، ولكن فقط من خلال اللجوء الى النعمة الإلهية. وحدها مساعدة الرب، تشجعنا على الهرب من الاستسلام أمام ضخامة التزامنا وتبعث فينا الشجاعة لتحقيق ما لا يمكن لعقل إنساني أن يفكر به.اللقاء مع الرب في الصلاة، يساعدنا على البقاء في حالة من التواضع، متذكرين أننا "خدم لا خير فيهم" (أنطر اوقا 17، 10). الإفخارستيا بنوع خاص هي مدرسة المحبة الكبيرة. عند المشاركة المنتظمة في القداس الإلهي، وعند مضي اوقات برفقة يسوع في أوقات طويلة من السجود، يكون من السهل إدراك ما هو العرض والطول والعلو والعمق، وعمق محبته التي تفوق كل معرفة (أنظر أفسس 3، 17-18). ومن خلال تقاسم الخبز الافخارستي مع إخوتنا في الجماعة الكنسية، نود أن نترجم محبة المسيح في خدمة إخوتنا المجانية، كما فعلت العذراء مع أليصابات.
نحو لقاء سيدني
لنتذكر دعوة القديس يوحنا لنا: " يا أبنائي الصغار، لا تكن محبتنا بالكلام أو باللسان بل بالعمل والحق، بذلك نعرف أننا من الحق" (1 يو 3، 18-19). أيها الشباب الاعزاء، بهذه الروح، أدعوكم إلى عيش اليوم العالمي المقبل للشباب مع أساقفتكم في مختلف أبرشياتكم. سيشكل هذا اليوم محطة هامة نحو لقاء سيدني الذي يحمل عنوان: "سيحلّ عليكم الروح القدس، فتتلقون منه القدرة وتكونون لي شهوداً (أعمال 1، 8). فلتساعدكم مريم، أم المسيح وأم الكنيسة، لتُسمِعوا في كل مكان الصرخة التي غيَّرت العالم: "الله محبة!". وانا أرافقكم في صلاتي وأعطيكم بركتي الرسواية.
الفاتيكان، 27 يناير 2007
بندكتس السادس عشر
ترجمة وكالة زينيت العالمية (zenit.org)
حقوق الطبع 2006- مكتبة النشر الفاتيكانية