"أَلقُوا الشَّبَكةَ... تَجِدوا " (يو 21، 6)
لقد أصغينا من جديد لكلمات يسوع في المقطع الإنجيلي الذي سمعناه للتوّ. تندرج هذه الكلمات في إطار سرد ظهور يسوع الثالث لتلاميذه على شاطئ بُحيرة طبرية، والذي يتحدث عن الصيد العجائبي.
بعد "عثار" الصليب، كان الرسل قد عادوا إلى أرضهم وإلى عملهم كصيادين، أي إلى ذلك النشاط الذي كانوا يقومون به قبل أن يلتقوا بيسوع. عادوا إلى الحياة السابقة، ويفهمنا هذا طبيعة مناخ الضياع والتشرذم الذي كان سائدًا في جماعتهم (راجع مر 14، 27؛ متى 26، 31). كان من الصعب بالنسبة للتلاميذ أن يفهموا ما قد حدث. ولكن، بينما بدا وكأن كل شيء قد انتهى، من جديد، كما على طريق عماوس، ها هو يسوع مرة أخرى، يأتي نحو أصدقائه.
وهذه المرة يلتقي بهم على شاطئ البحر، وهو المكان الذي يذكرنا بصعوبات وضيقات الحياة؛ يلتقي بهم عند بزوغ الفجر، بعد أن تعبوا طوال الليل دون أن يصيبوا شيئًا. كانت شباكهم فارغة.
إلى حدٍ ما، يبدو هذا الأمر كموازنة خبرتهم مع يسوع: لقد تعرفوا عليه، مكثوا بقربه، وهو بدوره وعدهم بأمور كثيرة. ومع ذلك، فها هم الآن يجدون نفسهم وجهًا لوجه مع الشبكة فارغةً من السمك.
وإذا بيسوع، مع بزوغ الفجر، يجيء للقائهم ( راجع آية 4). يشير "الفجر" في الكتاب المقدس إلى لحظة تدخلات الله العجيبة. ففي كتاب الخروج، مثلاً، "في هَجعَةِ الصُّبْحِ" تدخّل الله "مِن عَمودِ النَّارِ والغمَام" ليخلص شعبه الهارب من مصر (راجع خر 14، 24). وأيضًا عند الفجر، أسرعت مريم المجدلية والنساء الأخريات إلى القبر فالتقين الرب القائم. وهكذا في مقطع الكتاب المقدس الذي نحن بصدده الآن، كان الليل قد ولّى، وإذا بالرب يقول للتلاميذ الذين ثقل عليهم الإرهاق والخيبة لأنهم لم يصيبوا شيئًا من السمك: "أَلقُوا الشَّبَكةَ إِلى يَمينِ السَّفينة تَجِدوا" (آية 6).
عادةً تقع الأسماك في الشباك أثناء الليل، عندما يكون الظلام مخيمًا، لا في الصباح، عندما تكون المياه شفافة. أما الرسل، فقد وثقوا بكلام يسوع، وكانت النتيجة صيدًا عجيبًا وافرًا، حتى لم يتمكنوا من جذب الشباك، لكثرة السمك الذي اصطادوه (راجع آية 6).
عندها هتف يوحنا، مستنيرًا بالحب إلى بطرس وقال: "هو الرب" (آية 7). لقد تعرف التلميذ الذي كان يسوع يحبه بنظره الثاقب على الرب الواقف على شاطئ البحر. "هو الرب!": إن اعتراف الإيمان العفوي هذا هو دعوة لنا أيضًا لكي نعلن أن المسيح القائم هو رب حياتنا.
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، فلتهتف الكنيسة التي في فيجيفانو الليلة مكررةً بحماس كيوحنا: يسوع المسيح "هو الرب!". ولتسمع جماعتكم الأبرشية الرب الذي يردد عليكم بفمي قوله: "ألقي الشباك، يا كنيسة فيجيفانو، تجدين!".
فبالواقع، لقد أتيت بينكم لكي أشجعكم لتكونوا شهودًا متقدين للمسيح. فالالتزام الواثق بكلمته سيجعل جهودكم الرعوية مثمرة.
عندما يبدو وكأن العمل في كرمة الرب لا يأتي بثمار، تمامًا كتعب الرسل طوال الليل، لا يجب أن ننسى أن يسوع قادرٌ أن يقلب المعادلات كلها في لحظة واحدة.
تذكرنا الصفحة الإنجيلية التي أصغينا إليها، من جهة، أنه علينا أن نلتزم بالعمل الراعوي كما لو أن كل شيء كان رهن جهودنا. من ناحية أخري، تفهمنا بأن نجاح مهمتنا الحق هو كله عطية من النعمة. في مشاريع حكمته الخفية، يعرف الله الوقت المناسب للتدخل. وعندها، كما أدت الطاعة لكلمة الرب إلى ملء شباك التلاميذ، كذلك، في كل أوان، يستطيع روح الرب أن يجعل رسالة الكنيسة فعالة في العالم.
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، أعيش حضوري معكم كفرحة كبرى: أشكركم وأحييكم جميعًا من كل قلبي. أحييكم كممثلين عن شعب الله المجتمع في هذه الكنيسة الخاصة، التي مركزها الروحي هو الكاتدرائية التي نحتفل على مذبحها بالافخارستيا.
أحيي بعطف أسقفكم كلاوديو باجيني، وأشكره لأجل الكلمات الودية التي وجهها إلى في مطلع الاحتفال؛ وأشكر معه الكاردينال ديونيجي تيتامانزي، وأساقفة لومبارديا وغيرهم من الإكليروس. أوجه تحية حارة وخاصة للكهنة، مهنئًا إياهم لأجل الخدمة الكنسية التي يقومون بها بسخاء دون الركون للتعب والصعوبات. أوجه تحيتي أيضًا للمكرسين وللعاملين في الحقل الرعوي وللمؤمنين العلمانيين، الذين يساهمون بشكل ثمين ولا غنى عنه في إحياء مختلف الجماعات. ولا أنسى أن أحيي الإكليريكيين الذين هم رجاء الأبرشية.
كما وأوجه تحية احترام للسلطات المدنية، شاكرًا لأجل الرسالة الهامة التي يحملها حضورهم. وأوجه اخيرًا أفكاري للمؤمنين المجتمعين في مختلف الرعايا لمتابعة هذا اللقاء عبر شاشات التلفزيون والذين يشاركون بهذا القداس في الساحات والطرقات المحاذية لساحة الدوق، التي تزينها واجهة الكاتدرائية الفنية. لقد وضع هندستها أسقف فيجيفانو الشهير، خوان كارامويل، العالم ذو الشهرة الأوروبية، والذي احتفلنا في الشهور الماضية بالمئوية الرابعة لمولده. تضم هذه الواجهة ، ذات الهندسة الفريدة، المعبد والساحة والقصر مع قلعته بشكل متناغم، وترمز بهذا إلى تأليف تقليد رائع تتلاقى فيه أبعاد مدينتكم الجوهرية: البعد المدني والبعد الديني.
"أَلقُوا الشَّبَكةَ... تَجِدوا " (يو 21، 6)
يا جماعة فيجيفانو الكنسية العزيزة، ما هو معنى دعوة المسيح العملية لـ "إلقاء الشباك"؟ تعني قبل كل شيء، أن نؤمن به ونثق بكلمته، كما فعل الرسل. فيسوع يطلب منكم، كما طلب منهم، أن تتبعوه بإيمان صادق وثابت. لذا التزموا بموقف الإصغاء لكلمته وتأم لوها كل يوم.
تلاقي هذه الطواعية بالنسبة لكم تعبيرًا ملموسًا في السينودس الأبرشي الأخير الذي انتهي عام 1999. في ختام مسيرة هذا السينودس، التقى بكم البابا الحبيب يوحنا بولس الثاني في 17 أبريل 1999 في مقابلة خاصة، وحضكم على "الغوص إلى العمق وعدم الخوف من التعمق في البحر الواسع" (تعاليم، 22، 1، 1999، ص. 764). لا تنطفئنّ في قلوبكم الحماسة الرسولية التي ولدها السينودس المبارك الذي أراده الأسقف جوفاني لوكاتلي، المنتقل إلى رحمته تعالى، والذي تمنى بحرارة زيارة البابا إلى فيجيفانو. تبعًا لتوجيهات السينودس الأساسية، ولإرشادات راعيكم الحالي، ابقوا متحدين في ما بينكم، وانفتحوا على أفق التبشير الواسع.
فلتهدكم باستمرار كلمة الرب: "سيعرف العالم أنكم تلاميذي، إذا كان فيكم حب بعضكم لبعض" (يو 13، 35). فالروح الذي يجب أن ينعش جماعتكم هو حمل بعضكم أثقال بعض، والتعاون والشعور بالمسؤولية سوية.
يتطلب أسلوب العيش الجماعي هذا مشاركة الجميع: الأسقف والكهنة، المكرسين والمكرسات، العلمانيين والجمعيات ومختلف الجماعات الرسولي. تشكل الرعايا المفردة ، مثل حجارة الفسيفساء المتناغمة بعضها مع بعض، كنيسة خاصة حية، ومتحدة بشكل عضوي بكامل شعب الله.
تستطيع المؤسسات، والجماعات والأخويات العلمانية أن تقوم بمساهمة فريدة في التبشير، في مجال الإعداد، وأيضًا في مجال الخدمة الروحية، والاجتماعية والثقافية وخدمة المحبة، عاملةً دومًا بالتنسيق مع العمل الراعوي الأبرشي تبعًا لتعليمات الأسقف.
أشجعكم أيضًا لكي تتابعوا الاهتمام بالشبيبة، "القريب" منهم و "البعيد". في هذا المنظار، لا تتوانوا في تعزيز عمل راعوي لتشجيع الدعوات، بشكل عضوي ودقيق، لتساعدوا الشبيبة في بحثها عن معنى حقيقي لوجودها.
وما القول أخيرًا في موضوع العائلة؟ إن العائلة هي ركيزة الحياة الاجتماعية، ولهذا، فقط من خلال العمل لصالح العائلات، يمكننا أن نجدد نسيج الجماعة الكنسية، والمجتمع المدني أيضًا.
إن أرضكم هذه هي غنية بالتقاليد الدينية، وبالخميرة الروحية وبالحياة المسيحية النشيطة. على ممر الأجيال، صاغ الإيمان فيها الفكر والفن والثقافة، معززًا التعاضد واحترام الكرامة الإنسانية.
إن التعبير البليغ عن تراثكم المسيحي الغني هو شخصيات كهنة وعلمانيين نموذجيين شهدوا، عبر حياة متجذرة في الإنجيل وتعليم الكنيسة، - وخصوصًا خلال العواصف الاجتماعية التي هزت أواخر القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين – شهدوا للقيم الإنجيلية الأصيلة، كركيزة صالحة للتعايش حر وعادل ينتبه بشكل خاص لحاجات المعوزين.
يشكل هذا التراث الروحي النير مرجعًا أكيدًا لخدمة ناجعة لأبناء عصرنا، لمسيرة حضارة وتقدم أصيل.
"أَلقُوا الشَّبَكةَ... تَجِدوا " (يو 21، 6)
لقد قبل القديسون طوعًا تحريض يسوع هذا، فاختبروا في حياتهم اعجوبة الصيد الروحي الوافر. أذكر بشكل خاص شفعاءكم السماويين: القديس أمبروسيوس، القديس كارلو بورومييو، الكوباوي ماتيو كاريري. أذكر أيضًا ابنين عريقين من هذه الأرض، هم في مسيرة التطويب الآن: المكرم فرانشيسكو بيانزولا، الكاهن الذي كان يحركه روح إنجيلي متّقد، وقد عرف أن يلاقي فقر زمانه الروحي بشجاعة أسلوب إرسالي، ينتبه بشكل خاص على البعيدين والشبيبة؛ وخادم الله تيريزيو أوليفلّي، وهو علماني من الحركة الكاثوليكية، مات وله من العمر 29 سنة فقط في معسكر الاعتقال في هرسبروك، ضحية للعنف الوحشي الذي واجهه بشجاعة بتوقد المحبة.
إن هاتين الشخصيتين البارزتين من تلاميذ المسيح الأوفياء هما علامة بليغة تدل على الروائع التي قام بها المسيح في كنيسة فيجيفانو.
تماثلوا بهذه النماذج التي تبين عمل النعمة والتي تشكل تحريضًا لشعب الله لكي يتبع المسيح في درب القداسة المتطلب.
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء في أبرشية فيجيفانو! أرفع فكري إلى العذراء مريم التي تكرمون تحت اسم " Madonna della Bozzola ". إليها أكرس كل جماعتكم، لكي تنال لكم فيضًا جديدًا من الروح القدس في أبرشيتكم العزيزو.
إن تعب وعدم جدوى محاولة صيد التلاميذ الليلية هي تنبيه لكنيسة كل العصور: لوحدنا، من دون يسوع، لا نستطيع أن نفعل شيئًا! ففي العمل الرسولي لا تكفي جهودنا: من دون النعمة الإلهية، يبقى عملنا، ولو كان منظمًا، من دون فائدة.
فلنصل سوية، لكي تعرف جماعتنا الأبرشية أن تقبل بفرح المهمة التي يوكلها إليها المسيح وأن تكون جاهزة بشكل متجدد لكي
"تلقي" الشباك. ستختبر بكل تأكيد صيدًا عجيبًا، علامة قوة ودينامية كلمة وحضور الرب الذي يسبغ على شعبه باستمرار "شبابًا متجدّدًا بالروح".
ترجمة وكالة زينيت العالمية (ZENIT.org)
حقوق الطبع محفوظة: دار النشر الفاتيكانية – 2007.