“الكنيسة جمعاء مدعوة في هذا الزمن لأن تكون رجاءً”
الفاتيكان، الثلاثاء 2 ديسمبر 2008 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها بندكتس السادس عشر خلال الاحتفال بصلاة المساء الأولى يوم السبت في بازيليك القديس بطرس بمناسبة حلول الأحد الأول من زمن المجيء.
***
إخوتي وأخواتي الأعزاء،
مع صلاة المساء هذه نبدأ سنة ليتورجية جديدة، بالدخول إلى الزمن الأول من أزمنة هذه السنة: زمن المجيء. في القراءة البيبلية التي سمعناها للتو، والمأخوذة من الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي، يستخدم الرسول كلمة “العودة” تحديداً، التي تعني “الرجوع” في اليونانية، و”المجيء” في اللاتينية (1 تس 5، 23). وفقاً لترجمة هذا النص الموحدة، يدعو القديس بولس مسيحيي تسالونيكي لأن يكونوا بلا لوم “عند” عودة ربنا يسوع. ولكننا في النص الأصلي نرى من خلال استخدام كلمة العودة، كما لو أن عودة الرب ليست بمجرد حدث مستقبلي بل هي مكان روحي نمشي فيه في الزمن الحاضر خلال الانتظار، ونحن بكامل الحذر في كل بعد إنساني. في الواقع، هذا ما نعيشه تحديداً في الليتورجية: من خلال الاحتفال بالأزمنة الليتورجية، نحقق السر – هنا نعني مجيء الرب – بطريقة نتمكن من خلالها من “المضي فيه” نحو إنجازه كاملاً في نهاية الزمان، ونستمد منه القوة المقدسة منذ بدء الأزمنة الماضية مع موت المسيح وقيامته.
إن الكلمة التي تختصر هذه الحالة الخاصة التي ننتظر فيها أمراً يفترض به أن يظهر نفسه، ولكننا نملك كذلك لمحة أو توقعاً عنها، هي “الرجاء”. إن المجيء هو زمن الرجاء الروحي بامتياز، وتُدعى الكنيسة جمعاء في هذا الزمن لأن تكون “رجاءً” لنفسها وللعالم. فالنظام الروحي للجسد السري يتخذ “شكل” الرجاء. ويبدأ شعب الله أجمع بهذه المسيرة، منجذباً بالسر التالي: بأن الله هو “الله الذي يأتي” ويدعونا إلى لقائه. كيف؟ أولاً في هذا الشكل العالمي من الرجاء والانتظار أي في الصلاة، التي تجد سمو التعبير عنها في المزامير، الكلمات البشرية التي من خلالها وضع الله تضرع مجيئه ، وما يزال يضعه على شفاه المؤمنين وفي قلوبهم. إذاً، دعونا نتوقف قليلاً عند المزمورين اللذين تلوناهما منذ برهة واللذين يتعاقبان في النص البيبلي نفسه: 141 – 142 بحسب الترقيم العبراني.
“يا رب إليك صرختُ، أسرع إلي. أصخ لصوتي حين أصرخ إليك. لتُقم صلاتي كالبخور أمامك ورفع يدي كتقدمة المساء” (مز 141: 1، 2). على هذا النحو يبدأ المزمور الأول من صلاة المساء الأولى في الأسبوع الأول من كتاب المزامير: الكلمات التي تتخذ في بداية المجيء “شكلاً” جديداً لأن الروح القدس يجددها دوماً فينا وفي الكنيسة بين زمن الله وزمن البشر. “يا رب… أسرع إلي” (141، 1). إنه صراخ الإنسان الذي يشعر بالخطر الكبير، ولكنه أيضاً صراخ الكنيسة وسط الأشراك التي تحيط بها، وتهدد قداستها، هذه النزاهة من غير اللوم التي يتحدث عنها الرسول بولس والتي يجب الحفاظ عليها حتى مجيء الرب. وفي هذا الابتهال، يدوي أيضاً صراخ جميع الصالحين، وجميع الذين يريدون مقاومة الشر، ومغريات الرفاهة الجائرة، والملذات التي تنتهك كرامة الإنسان ووضع الفقراء. في مستهل زمن المجيء، تصرخ ليتورجية الكنيسة مجدداً بهذه الكلمات وتقدمها لله “كالبخور” (142، 2). في الكنيسة، لم تعد تُقدم القرابين المادية كما كان يحصل في الهيكل في أورشليم. وبدلاً من ذلك، يتم رفع الصلاة، وهي التقدمة الروحية، بالاتحاد مع صلاة المسيح، الذي هو في الوقت عينه ذبيحة الميثاق الجديد والأبدي وكاهنه. في صراخ الجسد السري، ندرك صوت رأس الكنيسة: ابن الله الذي حمل تجاربنا وخطايانا ليمنحنا نعمة انتصاره.
وتظهر هوية المسيح بشكل جلي مع المرنم في المزمور التالي، المزمور 142. هنا، كل دعاء يجعلنا نفكر بيسوع في فترة الآلام، ونفكر بخاصة في صلاته إلى الآب في بستان جثسيماني. أراد ابن الله في مجيئه الأول، في التجسد، أن يشاركنا حالتنا البشرية. وهو لم يشاركنا في الخطيئة، بل تألم من تبعاتها من أجل خلاصنا. في كل مرة تصلي فيها الكنيسة المزمور 142، تختبر مجدداً نعمة هذا الحنو، “مجيء” ابن الله في الكرب البشري، وهبوطه إلى أعماقه. إذاً، منذ البداية يعبر صراخ الرجاء في زمن المجيء بشدة عن خطورة حالتنا، وحاجتنا الماسة للخلاص، بالقول: “ننتظر مجيء الرب ليس كزخرفة جميلة مضافة إلى عالم تم خلاصه، بل كالسبيل الوحيد إلى التحرر من الخطر الأبدي. ونحن نعلم أنه كان يجب على المخلص نفسه أن يتألم ويموت ليخرجنا من هذا الحبس (142، 8).
والخلاصة هي أن هذين المزمورين يحمياننا من كل محاولة تهرب أو هرب من الواقع، ويحفظاننا من الرجاء المضلل، الرجاء الذي يرغب في الدخول في زمن المجيء والبداية بالميلاد بنسيان الطبيعة المهمة لوجودنا الشخصي والجماعي. إن رجاءنا رجاء جدير بالثقة، لا رجاء مخيب. وهو لا يمكنه إلا أن يكون رجاءً “فصحياً” كما تذكرنا كل مساء سبت الترنيمة المأخوذة من الرسالة إلى أهل فيليبي، التي من خلالها نعظم المسيح المتجسد، والمصلوب، والمرتفع، إله الكل.
له نقدم نظراتنا وقلوبنا، بالاتحاد الروحي مع مريم العذراء، سيدة المجيء. دعونا نضع يدنا بيدها وندخل بفرح في هذا الزمن الجديد من النعمة التي يمنحها الله لكنيسته لخير البشرية جمعاء. بعون أمنا مريم وعلى مثالها، دعونا نخضع لعمل الروح القدس، لكيما يقدسنا إله السلام كلياً، وتصبح الكنيسة علامة وأداة رجاء لجميع البشر.
آمين!
نقلته إلى العربية غرة معيط –
وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية – 2008.