"الريبة والقلق يسودان في هذه الحقبة"
الدوحة، قطر، الأربعاء 3 ديسمبر 2008 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي الكلمة التي ألقاها رئيس الأساقفة تشيلستينو ميليوري، مراقب الكرسي الرسولي الدائم لدى الأمم المتحدة، يوم الاثنين 1 ديسمبر في اللقاء حول التنمية الذي يجري في قطر برعاية الأمم المتحدة.
***
سيدي الرئيس،
منذ ستة أعوام، اجتمع قادة العالم في مونتيري المكسيكية للشروع معاً في عملية جديدة لتلبية حاجات الأفقر بيننا. آنذاك، كان العالم يعاني من الاعتداءات الإرهابية التي حصلت في 11 سبتمبر 2001، ومن التدهور الاقتصادي الناتج عنها. ولكنهم اجتمعوا على الرغم من هذه العقبات من أجل بلورة إجماع مونتيري الذي خلق رؤية جديدة لمستقبل مشترك.
نحن نجتمع اليوم في الدوحة في قطر لتقييم الدروس التي تعلمناها ولخلق أساليب وسبل تهدف إلى تحقيق رؤية مونتيري. مع ذلك، ينتابنا مجدداً شعور القلق حيال التبعات الاقتصادية والسياسية المتأتية من أزمة مالية لم يسبق لها مثيل، والوجود الدائم للإرهاب المدمر الذي تظهره الأحداث المأساوية في مدينة مومباي الهندية.
إن هذه الأزمة تظهر تحدياً كبيراً لإيجاد سبل من أجل تخفيف هموم الشعوب الأكثر فقراً. والأزمة المالية لم تنشأ أساساً عن إخفاق الإبداع البشري، بل عن ضعف السلوك الأخلاقي. فالإبداع البشري الواسع بلور أنظمة وأساليب من أجل تأمين حدود ائتمان ذات فوائد عالية وغير مستدامة، سمحت للأفراد والمؤسسات على حد سواء بمواصلة الإفراط المادي على حساب الاستدامة الطويلة الأمد. ومع الأسف أننا نرى الآن تأثيرات الجشع والتهور. ونتيجة لذلك، فإن من استطاع مؤخراً التخلص من الفقر المدقع، من المحتمل أن يرزح مجدداً تحت وطأته.
كثيراً ما نتحدث عن التنمية المستدامة كمبدأ شامل للبلدان النامية. فالتنمية المستدامة تلبي احتياجات الحاضر من غير تعريض قدرة الأجيال المستقبلية لخطر عدم تلبية احتياجاتها. كذلك، يجب على التمويل المستدام تلبية احتياجات التنمية الأساسية فيما يضمن الحفاظ على الموارد وزيادتها على الأمد الطويل. فقد آن الأوان للبلدان النامية والمتطورة لإعادة التأكيد على مبدأ التنمية المالية المستدامة، وتطبيقه في الأسواق المالية، وبالتالي خلق إدارة مستدامة لرؤوس الأموال. هذا هو التحدي الكبير لهذا المؤتمر المتمثل في ضمان التمويل للتنمية على نحو مستدام.
أساساً ليست التنمية العالمية مسألة لوجستيات تقنية فقط، بل هي أكثر من ذلك مسألة أخلاقية. ولا بد من إجراء التنمية الاجتماعية والاقتصادية وتطبيقها مع جعل الإنسان محور جميع المقررات. لقد شهدت السنوات الست الماضية ارتفاعاًً في تدفقات المساعدة، وتنمية مشجعة في عدد من المؤشرات والإحصائيات. مع ذلك، تطرح الأسئلة: كم من الأشخاص لا يحصلون على الغذاء، كم منهم يعيش في ظل خوف الحروب والقمع، كم منهم لا يحصل على الرعاية الصحية الأساسية، وكم منهم يفتقر إلى وظيفة محترمة تؤمن له دخلاً يعيله وعائلته؟ ومع الأسف تبقى الأجوبة كثيرة. هذه هي الأسئلة والهموم التي يجب أن تشكل جوهر استراتيجياتنا لضمان ألا يقدّر حجم التنمية بحسب معيار الكسب بل أهم من ذلك بحسب الحياة المستدامة.
منذ اجتماع مونتيري، لمسنا مجدداً أهمية دعم حكم جيد في كل بلد بهدف توفير سبل التنمية الفردية والعالمية. فالقيادة الحكومية التي تؤمن للأنظمة المالية الفعالة، ضريبة عادلة وإنفاقاً مسؤولاً وإشرافاً جيداً على البيئة، تضع الأساس الذي يجب أن تقوم عليه البلدان. فمبادئ الشفافية، وسيادة القانون، والحكم الجيد تضمن جميعها الاستقرار والثقة المالية الضروريين من أجل تأمين الوظائف، والإيرادات الضريبية، والنمو الطويل الأمد. إضافةً إلى ذلك، فإن شروط الحكم الجيد، واحترام حقوق الإنسان، والاستقرار الاجتماعي تؤمن للجهات الفاعلة في المجتمع المدني، بما فيها المنظمات العقائدية، السبل لتقديم الخدمات الحياتية التي كثيراً ما تعجز الحكومات الوطنية والمحلية عن تقديمها.
أما الحكومات الوطنية فهي بحاجة إلى تعاون الأسرة الدولية بغية تسريع عجلة التنمية الاقتصادية والبشرية. وقد شهدنا منذ اجتماع مونتيري التزاماً متجدداً بهدف تخصيص 0.7 بالمئة من إجمالي الدخل القومي في المساعدات الإنمائية الرسمية. مع ذلك، ما نزال على مسافة بعيدة جداً من هذا الهدف وقد شهدت مؤخراً المساعدات الإنمائية الرسمية تدهوراً بسيطاً. وكثيراً ما تقول البلدان المتطورة بأن المساعدة الإنمائية مرهقة جداً، إلا أن هذا التفسير يفتقر إلى الصدق خاصة عندما نرى أن الإنفاق العسكري يتزايد أكثر من المساعدة الإنمائية. هذا وتُظهر الأزمة المالية الأخيرة على نحو مشابه أنه عندما تتحد الإرادة السياسية مع الاهتمام بالمصلحة العامة، نتمكن خلال أشهر قليلة من تأمين موارد مالية كبيرة للأسواق المالية أكبر بكثير من إجمالي المساعدات المالية الرسمية التي أُنفقت منذ مونتيري. من المؤكد كذلك أن الإرادة السياسية والاهتمام بالمصلحة العامة للأنظمة المالية ينطبقان على البلدان الأكثر فقراً وحاجةً.
يجب على الأسرة الدولية إيلاء احترام أكبر لأصوات البلدان والأشخاص الأكثر حاجةً للمساعدة المالية. هذا وتحتاج مؤسسات بريتون وودز إلى إعادة التركيز، كما يجب على بلدان مجموعة الدول العشرين والدول الثماني أن تضمن سماع واحترام أصوات الأكثر حاجة إلى المساعدة الإنمائية. تب قى هذه المقاربة العامة للتنمية غير كافية ما لم يتم إيلاء اهتمام أكبر بالأشخاص الذين تكون حياتهم وبلادهم على المحك. وتستمر الأمم المتحدة في خدمتها كمنتدى أساسي لجمع كل الأصوات معاً بهدف تعزيز تضامن عالمي أكبر.
كذلك، لا بد من إيلاء اهتمام متجدد من أجل ضمان أنظمة تجارية أكثر عدلاً وإنصافاً. ونحن نسمع حالياً الكثير من الدعوات إلى التزام أكبر بتطبيق ما جاء في جولة المفاوضات التجارية في الدوحة. ولكن هذه المفاوضات سوف تستمر في التقاعص ما لم تعرب البلدان عن الثبات السياسي الضروري من أجل تعزيز تجارة عادلة والقيام بالتضحيات المطلوبة والحتمية. إضافة إلى ذلك فإن مشاكل الإعانات المشوهة للتجارة، والمضاربة المالية، وارتفاع أسعار الطاقة، وانخفاض الاستثمار في الزراعة أدت مؤخراً إلى فقدان القدرة على الحصول على العنصر الضروري للبقاء على قيد الحياة وهو الغذاء. وتدعو هذه التقلبات السياسية التي تنسف الوجود البشري إلى التزام مشترك لمعالجة مسألتي التجارة والتنمية العالميتين.
سيدي الرئيس،
يبدو أن الريبة والقلق يغلبان على هذه الحقبة. مع ذلك تبقى المزايا والمبادئ التي خلصت الأسرة العالمية من العديد من الأزمات، والتي تتمثل في التضامن مع الأسرة الدولية، والمشاركة العادلة والمنصفة في الموارد والفرص، والاستخدام المتعقل للبيئة، والامتناع عن السعي وراء كسب مالي واجتماعي قصير المدى على حساب التنمية المستدامة، وأخيراً في الشجاعة السياسية الضرورية من أجل بناء عالم تكون فيه الحياة البشرية محور جميع النشاطات الاجتماعية والاقتصادية. من خلال تبني هذه المبادئ الأساسية، سوف نساعد في خلق عالم يصبح فيه النمو الاجتماعي والاقتصادي والروحي متاحاً للجميع.
شكراً سيدي الرئيس
ترجمة وكالة زينيت العالمية (Zenit.org).