بكركي، الثلاثاء 23 ديسمبر 2008 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي رسالة البطريرك الماروني، الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، بمناسبة عيد الميلاد المجيد، بعنوان “المولود فيها هو من الروح القدس”.
أيها الأخوة والأبناء الأعزّاء،
نستقبل عيد ميلاد السيد المسيح هذه السنة، والقلوب واجفة، والأفكار قلقة، ولكننا في الوقت عينه نسمع السيد المسيح يقول لنا في انجيله المقدس ما قاله لتلاميذه يوم هبّت عليهم العاصفة، وهم في عرض البحر المضطرب:”ثقوا أنا هو، لا تخافوا” [1]، وقال أيضا: “سيكون لكم في العالم ضيق. تقوّوا أنا غلبت العالم”[2]. ولو تصفّحنا الانجيل بكامله لرأينا علامات الطمأنية والتشجيع، ونبذ الخوف، في كل صفحة من صفحاته.
وخير وسيلة لطمأنتنا، هي أن السيد المسيح أراد أن يقيم دائما معنا وفي ما بيننا، في القربان المقدّس، لا بل أن يجعل نفسه لنا مأكلا، ودمه مشربا. عندما قال في العشاء السرّي: “خذوا كلوا هذا هو جسدي، وهذا هو دمي، دمُ العهد الجديد، الذي يهرق من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا”.[3] فامتزج بنا وأصبح أقرب الينا من نفسنا.
ولكن هذا الاقتراب من المسيح بحيث أصبحنا معه روحيا جسدا واحدا يلزمنا بواجب، وهو التشبّه به، كما قال بولس الرسول:”اقتدوا بي كما اقتدي أنا بالمسيح”[4]. وبات علينا أن نفكّر كما يفكّر المسيح، على ما يقول بولس الرسول أيضا: “كل ما هو حق، وكل ما هو شريف وكل ما هو بارّ، وكل ما هو نقي، وكل ما هو محبّ، وكل ما هو ممدوح، وكل ما هو فضيلة، وكل ما فيه مديح، ففيه فكّروا”.[5]
لهذا ان عيد ميلاد الرب يسوع يشيع البهجة في النفوس، لأنه عيد الأمل، والفرح، والابتهاج، على ما قاله الملاك للرعاة، في يوم مولده، وكانوا يحرسون قطيعهم في جوف اللبل في مغارة بيت لحم، فهتف بهم قائلا:” قد وُلد لكم اليوم مخلّص،هو المسيح الرب، في مدينة داود، وهذه علامة لكم: تجدون طفلا مقمّطا، مضجعا في مذود! “[6].
والعذراء هي في وقت معا عذراء وأمّ، لأنها صورة للكنيسة, وأكمل تحقيق لها. والكنيسة تصبح بدورها أمّا، بفضل كلمة الله التي قبلتها بالإيمان: بالتبشير في الواقع، وبالعماد تولّد لحياة جديدة غير مائتة، أبناء حبل بهم الروح القدس، وخلقهم الله. وهي أيضا بتول أعطت قرينها ايمانها الذي حفظته سليما، نقيّا”[7].
أيها الأخوة والأبناء الأعزّاء،
من شأن عيد ميلاد الرب يسوع بالجسد أن يحمل الينا الفرح والطمأنينة، على الرغم مما يساورنا من هواجس، ونشعر به من قلق، ونراه من خروج على المألوف من عاداتنا. وهذا ما كان يردّده صاحب المزامير بقوله: ” اذا اصطفّ عليّ عسكر فلا يخاف قلبي، وان قام عليّ قتال، ففي ذلك ثقتي.” [8] ولكن هذا يعني أنه ليس بامكانا أن نُغفل ما جرى عندنا. ولو أردنا أن نعدّد أسماء الذين غيّبهم العنف عندنا، لطالت اللائحة. وهذا مدعاة أسف عميق. ولا يمكننا الا أن نسأل الله ان يجود على من فجعوا بفقدهم بنعمة العزاء الالهي.
ولا يمكننا أن نغمض العيون عمّا نرى اليوم. فالدولة أصبحت غير متماسكة، والحكومة أشبه بعربة يجّرها حصانان أحدهما يشدّ بها الى الأمام، والثاني يشدّ بها الى الوراء. وقد جرت العادة، في العالم كله، أن تتولّى الأكثرية الحكم، حتى اذا أخفقت أو هزلت، أو خُذلت، تولّت الأقلية الحكم مكانها. وأسباب الخلاف كثيرة عندنا. وكل عمل تريد الحكومة القيام به، ترى في داخلها من يضادّه، ويقاومه، ويسعى الى احباطه. والبطالة متكاثرة، والأزمة العالمية طالت بلدنا، وهناك أعداد من اللبنانيين كانوا يعملون في البلدان العربية قد انكفأوا على لبنان بسبب هذه الأزمة، وربما التحقوا بمن هاجر الى بلدان بعيدة. وكل ذلك يوجب على جميع اللبنانيين الانكباب على أسباب هذا الوضع، ومعالجته بتجرّد واخلاص دونما سعي الى ربح شخصي. واذا ربح الوطن ربح جميع أبنائه، واذا خسر خسروا جميعا. ويجب ألاّ يكون هناك مصالح شخصية، بل مصلحة الوطن هي التي يجب أن تطغى على ما سواها. وهذا لن يتحققٌ ما دمنا نسمع اللغة التحقيرية التي يتراشق بها اهل السياسة، وهي لغة لم تكن معروفة في غابر الأيام في لبنان. وعبثا يتطلّع اللبنانيون الى هذه الجهة أو تلك خارج لبنان، فلن يكون أصدقاؤهم أحنى عليهم من ذواتهم. واللبناني أبقى وأنفع للبناني من جاره بعيدا كان أو قريبا. وقديما قيل: “ما حكّ جلدك مثل ظفرك”.
ان صاحب هذا العيد يدعونا جميعا الى الاقتداء بمثله، وهو الذي ضحّى بنفسه على الصليب ومات عليه ليفتدينا، ولم يرد أن يضحّي بأحد في سبيل طموحات له شخصية. فعسى أن نقتدي به ونسير على الطريق الذي رسمه لنا، طريق نكران الذات والتضحية، والعمل بارادة أبيه السماوي.
وإنّا اذ نهنئكم جميعا بهذا العيد، نسأل السيد المسيح أن يجعل العام الجديد عليكم عام خير وبركة، ويعيد عليكم عديد أمثاله، وجميعكم على أتمّ عافية، ويحفظكم مشمولين برضاه وبركاته.
[1]– متى 14:27
[2]– يو 16: 33
[3]– متى 26: 26-28
[4]– ! كور
11 : 1
[5]– فل 4: 8
[6]– لو 2: 11
[7]– مار أغوسطينس ابتولية 3 راجع تعليم الكنيسة الكاثوليكية ع- 507
[8]– مز 26: