الفاتيكان، الأربعاء 10 ديسمبر 2008 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي الرسالة التي وجهها قداسة البابا بندكتس السادس عشر إلى رئيسي مجلسي الحوار بين الأديان والثقافة الحبريين بمناسبة يوم الدراسة الذي عقد في 4 ديسمبر الجاري حول موضوع "الحوار بين الثقافات والأديان".
* * *
إلى الكاردينال جان- لوي توران
رئيس المجلس الحبري للحوار بين الأديان
و
رئيس الأساقفة جانفرانكو رافازي
رئيس المجلس الحبري للثقافة
أود أولاً أن أعبر عن رضاي العميق للبادرة المشتركة التي يقوم بها المجلس الحبري للحوار بين الأديان، والمجلس الحبري للثقافة، الذي نظم يوم دراسة مكرس لموضوع "الحوار بين الثقافات والأديان"، كمشاركة للكرسي الرسولي في مبادرة الاتحاد الأوروبي، التي تمت المصادقة عليها في ديسمبر 2006، لإعلان عام 2008 "سنة أوروبية للحوار بين الثقافات". أحيي، مع رئيسي المجلسين المذكورين، جميع الكرادلة، وإخوتي المكرمين في الأسقفية، والسادة الكرام الممثلين الدبلوماسيين لدى الكرسي الرسولي، وممثلي مختلف الأديان المشاركين في هذا اللقاء الهام.
تعي أوروبا منذ سنين عديدة وحدتها الثقافية الجوهرية، بالرغم من الثقافات المحلية التي صاغتها. ومن الجيد أن يتم تسليط الضوء على هذا الواقع: إن أوروبا المعاصرة التي تبدأ الألفية الثالثة، هي ثمرة ألفي سنة من الحضارة. تمد هذه الأخيرة جذورها في إرث أثينا وروما العظيم والقديم، وبشكل خاص تمتد هذه الجذور في أرض المسيحية الخصبة، التي برهنت أنها قادرة على خلق إرث ثقافي جديد عبر تلقيها الإسهام الفريد الذي تقدمه كل حضارة.
تقدر الحضارة الإنسانية الجديدة، التي انبثقت عن الرسالة الإنجيلية المنتشرة، عناصر تليق بالشخص البشري ودعوته المتسامية، عبر تنقيتها من كل ما يلوث وجه البشرية الأصيل المخلوق على صورة الله.
وعليه، تظهر أوروبا لنا اليوم كنسيج ثمين، حيك من مبادئ وقيم الإنجيل، بينما تمكنت الثقافات الوطنية من محاكاة التنوع الكبير في وجهات النظر التي تبين البعد الديني، الفكري، التقني، العلني، الفني لمؤهلات الإنسان الأوروبي "Homo Europeus". في هذا الإطار، يمكننا أن نقول أن أوروبا كانت وما زالت تتمتع بتأثير ثقافي على كل الجنس البشري، ولا يمكنها أن تتوانى في الشعور بالمسؤولية ليس نحو مستقبلها وحسب، بل نحو البشرية بأسرها.
في الإطار الحالي، حيث يتساءل معاصرونا على نحو متصاعد عن أسئلة جوهرية حول معنى الحياة وقيمتها، يبدو أمرًا بالغ الأهمية أن نتأمل بالجذور القديمة التي انساب منها سيل غزير لعصور. يظهر الحوار بين الثقافات وبين الأديان كأولوية للاتحاد الأوروبي وذا أهمية لقطاعات الثقافة والتواصل، التربية والعلوم، الهجرة والأقليات، الشباب والعمل.
حالما يتم قبول التنوع كواقع إيجابي، من الضروري أن نجعل الأشخاص يقبلون لا فقط وجود الثقافات الأخرى، بل أيضًا يتوقون إلى الاغتناء بها. في توجهه إلى الكاثوليك، عبّر سلفي خادم الله بولس السادس عن قناعته العميقة في هذه الكلمات: "يجب أن تدخل الكنيسة في حوار مع العالم الذي تعيش فيه. تضحي الكنيسة عالمًا، تضحي رسالةً، تضحي حوارًا" (الرسالة العامة "كنيسة الله"، 67).
يجب على المؤمنين أن يكونوا على أهبة الاستعداد لكي يشجعوا مبادرات حوار بين الثقافات وبين الأديان، لكي يحثوا على التعاون في مواضيع ذات اهتمام مشترك، مثل كرامة الشخص البشري، البحث عن الخير المشترك، بناء السلام والنمو.
مع هذه النوايا، يود الكرسي الرسولي أن يعطي أهمية خاصة لمشاركته في حوار عالي المستوى بشأن الفهم المتبادل بين الأديان والثقافات والتعاون المشترك للسلام، في إطار الجمعية العامة الثانية والستين للأمم المتحدة (4 و 5 أكتوبر 2007). إذا ما أراد الحوار أن يكون أصيلاً، لا بد له أن يتحاشى النسبية وخلط المعتقدات وأن يتحرك انطلاقًا من احترام صادق للآخرين ومن روح مصالحة وأخوة سخي.
أشجع كل من يجهد لبناء أوروبا صديقة وأليفة، تتنامى أمانتها لجذورها، وبشكل خاص أحض المؤمنين على الإسهام ليس فقط في حماية غيورة للإرث الثقافي والروحي الذي يميزهم، وأن يصيروا جزءًا متكاملاً من تاريخهم، وأن يكرسوا أنفسهم بشكل متزايد للبحث عن سبل جديدة لكي يواجهوا بشكل مناسب التحديات الكبرى التي تطبع العصر ما-بعد-الحديث. من بين هذه التحديات أكتفي بذكر الدفاع عن الحياة البشرية في كل مراحلها، وحماية حقوق الشخص والعائلة، وبناء عالم عادل ومتعاطف، احترام الخليقة، والحوار بين الثقافات والأديان. في هذا الإطار، أوجه أحرّ التمنيات لكي يتكلل يوم الدراسة بالنجاح، وأستمطر غزير بركات الله على المشاركين.
أعطي في الفاتيكان، في 3 ديسمبر 2008.
بندكتس السادس عشر
* * *
نقله من الإنكليزية إلى العربية روبير شعيب – وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية – 2008.