“نجد مرة جديدة في هذه الرواية التضاد بين شخصيتين: الغني الذي يأكل ويشرب ويعيش عيشة بذخ،والفقير الذي لا يمكنه حتى التقاط الفتات الذي يرميه الأغنياء عن مائدة الوليمة: بحسب عادة ذلك الزمن، كانوا ينظّفون أصابعهم بقطع من الخبز يرمونها فيما بعد. لقد صنّف بعض من آباء الكنيسة هذا المثل في الخانة التي وضعوا فيها الأخوين وطبّقوها على العلاقات بين اسرائيل (الغني) والكنيسة ( لعازار الفقير). وأنكروا بعملهم هذا تماما أن الأمر هنا يتعلّق بنموذجية مغايرة. وهذا ما نراه في الخواتيم المختلفة. وفيما تبقى النصوص المتعلّقة بالأخوين مفتوحة، وهي تنتهي بسؤال ودعوة،هنا، ان نهاية كلا الوجهين تبدو انها لا عودة عنها.
ولكي نحسن فهم هذه الرواية،علينا أن نتمثّل في آخر المطاف سلسلة المزامير التي تصعد منها أمام الله شكوى الفقير : فهو يعيش في الايمان بالله وفي الطاعة للوصايا، ولكنه لا يعرف الاّ الشقاء فيما أهل البذاءة الذي يحتقرون الله، يطيرون من ظفر الى ظفر. ولعازر هو من هؤلاء الفقراء الذين نسمع صوتهم مثلا في المزمور 43: “تجعلنا مثلا في الأمم، ويرفع الغرباء أكتافهم …من أجلك نُذبح دون انقطاع، ونعامل مثل غنم للذبح” ( مز43(44)، 15، 23: راجع روم 8: 36). في البدء، كانت حكمة اسرائيل تقوم على هذه الفرضية، وهي أن الله يجازي البار ويعاقب الخاطيء، بحيث ان الخطيئة يقابلها الشقاء، والبرارة تقابلها السعادة. ولم تكن آلام شعب اسرائيل في مجمله أسوأ من آلام الشعوب التي كانت تحيط به، والتي أجبرته على النفي، وكانت تسحقه،غير أنه على الصعيد الخاص أيضا كان واضحا شيئا فشيئا أن الصلافة كانت مجزية، وان البار في هذا العالم كان منذورا للآلام. في المزامير والكتابات الحكمية المتأخّرة، نشهد الصراع لحلّ هذا التناقض، ومحاولة جديدة للصيرورة “حكيما” ولفهم الحياة بطريقة صحيحة، لنجد الله، مجدّدا ، الله الذي يبدو ظاهرا كأنه غير عادل، أو انه بكل بساطة، غائب.
بامكاننا أن نعتبر نوعا ما، ان أحد النصوص التي تُظهر هذا الصراع بكل الحاح، اي المزمور 72(73) تشكّل الخلفية الثقافية لَمٍِِِثلنا. ونرى أنه يظهر فيه أمامنا شخص الغني الذي يشكو منه الرجل المستغرق في الصلاة، لعازر بقوله: “اني غرت من السفهاء،اذ رأيت سلام المنافقين، فهم لا أوجاع لهم الى الموت، وأبدانهم سمينة، ليسوا في ضرر كالناس، ولا يصابون مع البشر. لذلك تطوّقوا بالكبرياء، واكتسوا ثوب الجور…يسخرون، وفي خبثهم ينطقون بالعسف، ويتكلّمون بتشامخ…يجعلون أفوأههم في السماء، وألسنتهم تسعى في الأرض. لذلك يرجع شعبه هناك ويُجرون مياها طافحة، ويقولون كيف يكون الله عالما وهل من علم للعليّ ؟ “.
ان البار الذي يتألّم ويرى كل هذا، يقع في خطر الضلال عن ايمانه. هل لا يرى الله شيئا أبدا ؟ هل لا يسمع ؟ هل هو لا يهتمّ بمصير الناس؟ ” حقا عبثا حافظت على قلبي طاهرا…لقد ضُربت كل يوم، وأدّبت منذ الصباح… أجل ان قلبي اغتاظ” .ان التبديل يتمّ عندما يتألّم البار في الهيكل ويدير نظره الى الله، ويسمح له هذا النظر الملتفت الى الله أن يوسّع منظوره. وهو يرى الآن ان البراعة الظاهرة التي تؤمّن النجاح لأهل الوقاحة، عندما نتطلّع عن كثب، تبدو حقا انها بلاهة. هذا النوع من الحكمة يعني البلاهة كحيوان. وهؤلاء الناس يقبعون محتجزين في منظور حيواني، وقد فقدوا المنظور الانساني الذي يذهب الى أبعد من الدائرة المادية التي تقود الى الله، الى الحياة الأبدية.
وهناك مزمور آخر يخطر ببالنا، وفيه أن رجلا مضطهدا ينهي كلامه بالقول مع صاحب المزامير: ” املأ بطونهم من ذخائرك: وليشبع البنون…أمّا أنا فبالبرّ أعاين وجهك: وأشبع عند اليقظة بصورتك” .هناك نوعان من الشبع يتقابلان هنا : الشبع من الخيور المادية، والشبع من وجه الله، وهو شبع القلب بمقابلة المحبة الالهية اللامتناهية. ” لدى اليقظة”، هذا يرسل الى التنبّه الذي يقود الى تجديد الحياة الأبدية، ولكنه يعود أيضا الى ” يقظة” أعمق في عالم الأرض: اليقظة على الحقيقة التي تقدّم منذ الآن الى الانسان طريقة جدية للشبع.
هذه اليقظة التي تتمّ في الصلاة هي موضوع المزمور 73(72 ) . ذلك أن الانسان، وهو يصلّي، يرى أن سعادة الوقحاء الذين يحسدهم كثيرا ليست سوى ” حلم لدى الخروج من النوم” ، وهو يرى أن الرب، عندما يستيقظ، يطرد صورتهم . ويعرف الآن ما هي السعادة الحقيقية:” أنا معك في كل حين، وأنت أخذت بيدي اليمنى …من لي في السماء وعلى الأرض، ان لم يكن لي ، حتى معك، اي فرح على الأرض… وأنا فحسن لي القرب من الله” .وليس الأمر هنا رجاءِِِِ معزيا عن العالم الآخر، بل يقظة على عظمة الوضع الانساني الحقيقية التي تُعدّ، دونما شك، الدعوة الى الحياة الأبدية جزءا منها لا يتجزّأ.
وعلى الرغم من الظواهر، لم نبتعد عن مثلنا. وفي الواقع ان الرب، بهذا المثل، يريد ان يقودنا على طريق هذه “اليقظة” التي تعبّر عن نفسها في المزامير. ولا يتعلّق الأمر هنا بشجب غنى الأغنياء الحقير المتأتي عن الحسد. في المزامير التي تأملّنا فيها بسرعة ، لقد قمعنا كل حسد: لأن الانسان الذي يصلّي عرف الخير الحقيقي، وهو يعرف أيضا أن اشتهاء هذا الخير التافه لا معنى له. بعد الصلب، نجد رجلين محظوظين هما نيقوديمس ويوسف الرامي اللذان وجدا الرب واللذان هما ” على طريق اليقظة”. يريد الرب أن يقودنا من لباقة بلهاء الى حكمة حقيقية، ويعلّمنا أن نعرف الخير الحقيقي. واذا كان النصّ لا يقول ذلك عن قصد، يمكننا أن نقول انطلاقا من المزامير ان في هذا العالم ، الغن
ي كان رجلا ذا قلب فارغ ، وهو فيما كان يتنعم بالمآدب الفاخرة ، كان يبحث فقط عن خنق الفراغ الذي كان يتقلّب فيه: في العالم الآخر، ان الحقيقة الوحيدة التي تتجلّى هي تلك التي كانت تسود هذه الدنيا.طبعا، ان هذا المثل الذي يحضّنا على اليقظة هو أيضا دعوة الى المسؤولية والمحبة اللتين علينا أن نبذلهما الآن لأخوتنا الفقراء، سواء أكان على صعيد المجتمع العالمي بأجمعه، أم كان على صعيد حياتنا اليومية الحقيرة.
ان يسوع في وصفه الحياة الآتية التي ستتبع، يكتفي بما تتمثّله يهودية زمانه. في هذه الطريقة، يجب ألاّ نُقحم هذا الجزء من النصّ ، لأن يسوع يستعمل عناصر مصوّرة كانت موجودة ، دون أن يجعل منها تعليمه صراحة في ما خصّ الحياة الأخرى. ولكنه يأخذ على حسابه بوضوح كبير جوهر الصور. ولا يخلو الأمر من الأهمية ان يسوع يأخذ على عاتقه هنا الأفكار التي كانت سائدة في زمانه في الايمان اليهودي عن وجود وسطي بين الحياة والموت. ان الغني وجد نفسه في مقرّ الأموات الموقّت” هاد ث” وليس في “جهنم ” وهو الاسم االذي يُطلق على المقرّ النهائي. “قيامة الموتى” ليست جزءا من رؤية يسوع. ولكن، على ما قلناه، ان التعليم الذي أراد الرب أن يوزّعه علينا بهذا المثل، هو أمر آخر. وكما أظهر ذلك جرمياس بطريقة مقنعة، ان الأمر يتعلّق بالأحرى ، في قمة ثانية من المثل، بضرورة طلب علامة منظورة.
ان الرجل الغني يتوجّه من أعماق مقرّه ( الهادث) الى ابراهيم ليطلب منه ما تمنّى كثير من الناس، البارحة واليوم، أن يقولوه أو أن يحبّوا قوله، لله : اذا شئت أن نؤمن بك، وأن ننظّم حياتنا وفق الوحي التوراتي، وبطريقة أوضح ولا شك، أرسل الينا أحدهم من العالم الآخر ليقول لنا ما هي حقيقة الأمر.هذه المشكلة الخاصة بضرورة علامة مرئية، وبضرورة وضوح أكبر في اظهار الوحي، تجتاز كل الأنجيل. ان جواب ابراهيم واضح، كالجواب الذي أعطاه يسوع خارج هذا المثل عن ضرورة علامة مرئية التي أعرب عنها معاصروه: من لا يؤمن بعبارة الكتاب، لن يؤمن ، ولو جاءه أحد من الآخرة. لا يمكن ادخال أسمى الحقائق في قالب الوضوح العملي، الخاصة بالأمور المادية وحدها.
لا يستطيع ابراهيم أن يرسل لعازر الى بيت ابي الرجل الغني.غير ان هنا، شيئا يلفتنا. انا نفكّر بقيامة لعازر بيت عنيا التي تكلّم عنها الانجيل بحسب القديس يوحنا. ماذا جرى ؟ “ان الكثرة من اليهود الذين أتوا … آمنوا به”، يقول لنا الانجيلي. وذهبوا الى الفريسيين ليخبروهم بما جرى، ولهذا اجتمع مجمع اليهود الأكبر ليناقش الأمر. هناك، نظروا الى الأمر نظرتهم الى حدث سياسي. واذا قامت حركة شعبية في هذه الظروف، فانها قد تستدعي تدخّلا من قبل الرومان، وتفضي الى وضع خطير. فقرّ الرأي اذن على قتل يسوع : ان الأعجوبة لا تقود الى الأيمان ، بل الى التصلّب.
ولنتابع تفكيرنا. وراء شخص لعازر ،الطريح، المغطّى بالجراح،أمام باب الرجل الغني، أفلا نرى سرّ يسوع الذي” تحمّل آلامه خارج سور المدينة ” ، والذي هو ممدّد على الصليب، كان معرضّا لهزء الجماهير واحتقارهم، وجسمه ” تكسوه الدماء والجراح” : “وأنا، دودة لا انسان، عار عند البشر، ورذالة في الشعب”.
هذا اللعازرالحقيقي قام، وجاء ليقول ذلك لنا. اذا نظرنا الى قصة لعازر كجواب يسوع على ضرورة أيات مرئية عبّر عنها معاصروه، نجدنا في انسجام مع الجواب الوسطي الذي أعطاه يسوع عن هذه الضرورة. واليكم ما يقوله متى:” جيل شرّير فاجر يطلب آية ، ولن يُعطى آية الآّ آية يونان النبي. فكما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، كذلك سيكون ابن الانسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال” .ونقرأ لدى لوقا: ان هذا الجيل جيل شرّير: انه يطلب آية ، ولن يُعطى آية الاّ آية يونان. فكما كان يونان ّ آية لأهل نينوى ؛ كذلك سيكون ابن الانسان لهذا الجيل ” .
عبثا نحلّل هنا الفوارق بين النصّين.هناك شيء واضح: ان آية الله المعطاة للانسان هي ابن الانسان، يسوع بعينه. وهو هذه الآية، بالمعنى الأعمق،في سرّه الفصحي، وفي سرّ موته وقيامته. انه هو عينه ” آية يونان” هو المصلوب والقائم من الموت، انه لعازر الحقيقي : الايمان به، بهذه الآية الالهية الكبيرة، واتباعه،هذا ما يدعونا اليه هذا المثل الذي هو أكثر من مثل. لأنه يتكلّم عن الواقع ، واقع التاريخ الحاسم بامتياز.
أيها الأخوة الأعزّاء،
هذا الزمن هو زمن الصوم والصلاة والتفكير بشؤون الدين والنفس. لذلك تدعونا الكنيسة الى الصلاة والصوم والتقشفات، والصوم عن الكلام النابي الذي يفعل في النفوس ما لا تفعله الجراح، هو خير ما نفعله في هذه الأيام الصيامية”