روما، الثلاثاء 4 مارس 2009 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي القسم العاشر من مقالة روبير شعيب حول موضوع "التعليم المسيحي: بين اللاهوت، القداسة، والأبوة الروحية".
* * *
الأبوة الروحية في تعليم بولس
يعي القديس بولس أن التنشئة المسيحية وتسليم "الوديعة" ليس مسألة نقل معلومات وعقائد وحسب، بل هو أولاً وأساساً إنجاب إلى الحياة في المسيح. ويعبر رسول الأمم عن هذا الأمر في مواضع عديدة.
في رسالته إلى أهل غلاطية، يقول: "يا بني، أنتم الذين أتمخض بهم مرة أخرى حتى يصور فيهم المسيح" (غلا 4، 19).
نرى في هذه الآية كيف أن بولس يشبه تبشير الغلاطيين بمخاض المرأة الحبلى التي تلد. إن غيرة بولس لولادة الغلاطيين، والمسيحيين إجمالاً، إلى الحياة في المسيح تشبه مخاض المرأة التي تلد البنين إلى الحياة الأرضية.
وفي كلامه إلى الكورنثيين يقول: "أريد أن أنصحكم نصيحتي لأبنائي الأحباء. فقد يكون لكم ألوف الحراس في المسيح، ولكن ليس لكم عدة آباء، لأني أنا الذي ولدكم بالبشارة، في المسيح يسوع، فأحثكم إذا أن تقتدوا بي" 1 كور 4، 14 – 16).
ويقول في الرسالة عينها متحدثًا عن تلميذه الحبيب تيموثاوس: "تيموثاوس إبني الحبيب والأمين في الرب" (1 كور 4، 17).
وبما أنه يعامل الكورنثيين كأبنائه، فإنه يعتبر أنه من حقه أن يعاملوه كما يعامل الأب، فيقول في رسالته الثانية إليهم: "عاملونا بمثل ما نعاملكم. إني أكلمكم كلامي لأبنائي، فافتحوا قلوبكم أنتم أيضا" (2 كور 6، 13).
كما ويتوجه بتعابير لطيفة وأبوية إلى تيموثاوس فيقول: "من بولس رسول المسيح يسوع بأمر الله مخلصنا والمسيح يسوع رجائنا، إلى طيموتاوس ابني المخلص في الإيمان" (1 تيم 1، 1 – 2).
وبالشكل عينه يفتتح الرسالة الثانية: "من بولس رسول المسيح يسوع بمشيئة الله، وفقا للوعد بالحياة التي هي في المسيح يسوع، إلى طيموتاوس ابني الحبيب. عليك النعمة والرحمة والسلام من لدن الله الآب والمسيح يسوع ربنا" (2 تيم 1، 1 – 2). ولا ينفك يتوجه إليه بتعبير "يا بني" (راجع 1 تيم 1، 18؛ 2 تيم 2، 1). وبالشكل عينه يتوجه إلى تيطس (راجع 1، 4).
وفي الرسالة القصيرة إلى فيلمون، التي يطلب فيها من المسيحي فيلمون أن يرأف بعبده أونيسمس الذي كان قد هرب في ما مضى، فيقول بولس: "...آثرت أن أسألك باسم المحبة سؤال بولس الشيخ الكبير الذي هو الآن مع ذلك سجين يسوع المسيح. أسألك في أمر ابني الذي ولدته في القيود، أونيسمس الذي كان بالأمس غير نافع لك، وأما الآن فلي ولك صار نافعا. أرده إليك، وهو قلبي" (فيل 9 – 12).
أود أن ألفت النظر إلى الكلمات المؤثرة التي يستعملها بولس في وصف أونيسمس: "ابني الذي ولدته في القيود"، و "هو قلبي". يتحدث بولس عن أونيسمس الذي ارتد إلى الإيمان على يده بتعابير الولادة والمخاض التي رأيناها سابقًا، ويعتبره كما يعتبر المرء عادة أبناءه، فلذة أكباده، وقلبه.
وعليه، فبالنظر مليًا إلى فهم بولس للتبشير يظهر كيف أن رسول الأمم يكثر من تعابير الأبوة والأمومة في حديثه الأمر الذي يبين كيف أنه لا يعتبر البشارة والتنشئة المسيحية دعاية تهدف إلى جمع المناصرين، بل عملية إنجاب يلد فيها الرسول المؤمنين إلى حياة الإيمان.
هذه الولادة لا تحتل مكان أبوة الله بل هي ثمرة الإيمان، بحيث يضحي من يلد أبًا في الآب. يقول بولس في هذا الصدد: "أجثو على ركبتي للآب الذي منه تستمد كل أبوة اسمها في السماء والأرض" (أف 3، 15). الرسول ليس أبًا بفضل ذاته، بل بفضل أبوة الله الآب التي منه تستمد أبوته في المسيح اسمها وجوهرها وديناميتها.
إنطلاقًا من محورية الأبوة الروحية في تعليم بولس يمكننا أن نفهم قول اللاهوتي والفنان ماركو إيفان روبنيك (Marko Ivan Rupnik): "من دون أمومة وأبوة روحية، لن يصل التبشير الجديد [الذي تحدث عنه ودعا إليه يوحنا بولس الثاني] إلى الأعماق الضرورية لتحقيق رسالته في القارة الأوروبية التي فقدت طابعها المسيحي".
إنطلاقًا من فهم الرسول للأبوة الروحية، نستطيع أن نقول أننا مدعوون إلى عيش الأبوة الروحية في توتر يجمع في الوقت عينه بين بادرة لا تعتمد علينا – فالله هو الذي يلد النفوس إلى الحياة الأبدية – ويعتمد علينا في الوقت عينه – فالله شاء أن يلد النفوس بواسطة أحشائنا.
في تعليمنا المسيحي، لا يجب أن ننقل سلسلة من الأحكام، بل يجب أن نعيش الحركة عينها التي يعيشها الله في حميميته، أي حركة الولادة. وما من مسيحي يستطيع أن يعتبر نفسه مستثنىً من هذه المهمة المقدسة.
ولنذكر أيضًا أن كلمة "روحي" في المسيحية ليست تعبيرًا عن خبرة إيزوتيرية، بل عن حياة وخبرة في الروح القدس. وعليه فالأبوة الروحية هي أبوة تنبع من الآب في المسيح بفعل الروح القدس، هي خبرة ثالوثية.
* * *
- روبير شعيب يعلم "الكريستولوجيا" و "مدخل إلى الفكر اللاهوتي الآبائي" في مدرسة الرسالة في فلورنسا إيطاليا، ويقوم حاليًا بكتابة أطروحة دكتورا في اللاهوت الأساسي في جامعة الغريغوريانا الحبرية في روما حول موضوع "معاني وحواس الإيمان. نظرة إلى الأبعاد ما قبل وما بعد العقلية في فعل الإيمان"، كما ويعمل كصحفي لوكالة زينيت العالمية.