بقلم الأب الياس جانجي

روما، الثلاثاء 24 مارس 2009 (zenit.org). – نتحدث الآن عن المباحثات لمقررات مجمع خلقيدونيا في أرمينيا.

 3ـ 3. المباحثات الخلقيدونيّة في أرمينيا (452-703)

يمكن تقسيم الفترة التي تلت مجمع خلقيدونيا إلى ثلاث حقبات:

الحقبة الأولى (452-502): يمكننا القول بأن معظم الباحثين الأرمن الكاثوليك ، وكذلك الأمر بعض الباحثين الحيادين منهم مثل مالخاصيان ومامانتيان يقبلون بأنه خلال النصف الثاني من القرن الخامس كان القسم الفارسيّ من أرمينيا باتفاق مع القسم البيزنطيّ. وكان معظم البطاركة في تلك الحقبة أمثال البطريرك هوفهان مانتاكوني  يقبلون الفكر الهلينيّ، ويتتلمذون في مدرسته .  لكن هناك علماء آخرون يؤكدون لا خلقيدونيّة  هذا البطريرك، وذلك استناداً إلى أسقفه المساعد يوحنا .

كما ذكرت سابقاً، فإن حرب "أفاراير" تزامنت مع مجمع خلقيدونيا، وبعد هذه الحرب كان البطريرك هوفهان منشغلاً بوضع شعبه السياسيّ والاقتصاديّ، وبحل النزاعات مع البلدان المحيطة، ولذلك لم يكن لديه الوقت الكافي للاهتمام بالمجمع أو بقراراته العقائديّة، بل كان عليه تأمين نوع من الهدوء الدبلوماسي بينه وبين الفرس، أي الحفاظ على الأرض والهوية الأرمنية. ولهذا فإنه حافظ على الإيمان القويم الذي استلمه من خلفائه ولم يعطي رأيه بشكل نهائي بهذا الخلاف، وخاصّة بأنه لم يكن لدى الأكثرية من أساقفة أرمينيا علم بانعقاد هذا المجمع .

الحقبة الثانية (505-550): خلف البطريرك هوفهان البطريرك بابكين الأول فتمسيتسي (502-508)  ، الذي في عهده عُقد مجمع تفين  بمشاركة الأفغان . كما أنه سعى إلى عدم قبول الكنيسة الأرمنيّة للفكر اللاخلقيدونيّ. فالكاثوليكوس أبراهام (607-611)  يذكر بأن بابكين رشق المجمع الخلقيدوني بالهرطقة ورفض رسالة البابا لاون. وإن هذه الرسالة فُقدت لفترة من الزمن، ووُجدت بالترجمة اليونانيّة، فأُعيدت ترجمتها إلى اللغة الأرمنيّة ولكن مع الكثير من الأخطاء.

من المؤكد أن بابكين قد كتب رسالتين على طلب سيمون بت ارشاماتسي السريانيّ ، لأن هذا الأخير كان يريد من بابكين أن يرسل رسالة راعوية إلى بلاد الفرس ضد البدعة النسطوريّة، ذلك لأن اتباع هذه البدعة اشتد شأنهم بعد تعليم المجمع الخلقيدونيّ . فالرسالة الأولى التي أُرسلت إلى الأساقفة لا تحتوي على أي شيء ضد هذا المجمع، وخاصة عندما يعترف الجميع بأن: «هذا هو إيماننا: إيمان روما والأرمن  والأفغان». أما سيمون فلم يكن راضياً عن الرسالة المُرسلة، فأتى ومعه مرسوم الإمبراطور زينون سنة 482. ففي هذه الرسالة يقبل الإمبراطور المجامع الثلاثة الأولى، لكنه لا يرشق المجمع الرابع بالهرطقة. لاقت هذه الرسالة قبولاً كبيراً من قِبل الرهبان الشرقييّن. رأى بابكين أنه من الضروري أن يحدد موقفه، وخاصة أنه من جهة، كانت النسطوريّة تستغل المجمع الخلقيدونيّ لمصالحتها الشخصيّة، وهذا ما كان يقلق أتباع كيرلس، حيث أنهم بدلاً من أن يدافعوا عن صحة العقيدة الخلقيدونيّة، أصبحوا يكرهونها ويهاجموها. أما من الجهة الثانية مع أن البابا فيلِكس الثالث رفض رسالة الإمبراطور زينون ، قبل اليونان، حيث كانوا يضعون التعليم الخلقيدونيّ في موضع الشك. من هنا ففي الجو المعاكس للتيار الخلقيدونيّ قرر بابكين أن يتبّنى موقف اليونان بقبوله الرسالة، من أجل أن يتخلص من ضغطهم، وخاصة أن أرمينيا لم تلتقط أنفاسها بعد الحروب التي خاضتها. وهكذا لا يمكننا الحديث عن رفض المجمع الخلقيدوني في الرسالة السابقة، لأن الخطأ هو ترجمة النص الأصلي من اللغة اليونانية .

أما بما يتعلق باتباع بابكين ففي سنة 519 عقد القيصر يوستينوس وبطريرك القسطنطينية يوحنا الصلح مع روما وذلك بقبول المجمع الخلقيدوني. ومن المحتمل أن الأرمن في ذلك الزمان لم يكونوا ضد التيار الخلقيدوني . فلو حصل هذا الانشقاق في النصف الأول من القرن السادس، فإن الإمبراطوران يوستيانوس ويوستينوس الأول كانا سيبذلان كل جهدهم من أجل أن يضموا الأرمن تحت لواء امبراطوريتهم. لكن التاريخ لم يسجل مثل هذا الحدث .

الحقبة الثالثة (552-611): في عهد نرسيس أشداراكيتسي الثاني  حدث الانفصال والرفض بشكل رسمي لمجمع خلقيدونيّا، خلال مجمع تفين الثاني المُنعقد في عام (554). لكن يرى بعض الباحيثين  أن المجمعين تفين الأول والثاني ملخصان تحت اسم مجمع تفين الثاني. الأول (551) من أجل رسامة ابتيشو السرياني. والثاني (554-555) مختص بالبدعة النسطوريّة، حيث وُقعت وثيقة "ميثاق الجمعية"، التي لا تأتي على ذكر المجمع الخلقيدونيّ .

في بدايات القرن السادس حدثت تفرعات كثيرة ومتناقضة. فالصراع كان قائماً بين البطريرك صفرونيوس الأنطاكيّ والأسقف يوليانوس. لكن بعد وفاة يوليانوس، نقص عدد اتباعه في المنطقة، فاضطروا إلى إرسال وفد إلى كاثوليكوس الأرمن نرسيس ، طالبين منه أن يرقّي ابيتيشو إلى الدرجة الأسقفية. فنجحوا في الحصول على مساندة بعض الأساقفة والأمراء الأرمن لهم. فطلب ابيتيشو من الأساقفة عند رسامته أن يرفض المجمع الخلقيدوني وكتاب لاون. بالتالي ولأول مرة في رتبة طقسية أرمنية وجهاراً يُرفض المجمع الخلقيدوني. بعد عشرين سنة يكتب يوحنا الأورشليمي للأسقف أباس الفارسي، محذراً إياه من بدعة الأرمن اتباع يوليانوس: "لقد خُدع الأرمن من قِبل السريان على يد ابيتشيو" .

فالخدعة الكبيرة تتوقف في خداع السريان للأرمن على أنهم ينتمون إلى العقيدة عينها، باعتبار النسطوريّ ة عدوة الكل، والمجمع الخلقيدونيّ هو مساوٍ للنسطورية ويحمي هرطقتها. وهكذا فإن حرم نسطوريوس لابد له أن يؤدي بنا إلى حرم مجمع خلقيدونية. أما بحسب أرسين الفارسيّ إن هدايا البلاط الفارسيّ، قد لعبت دوراً مهماً في نجاح التعاقد بين السريان والأرمن. وهذه الفرضية يمكن أن تكون صحيحة، لأن الملك الفارسيّ كان يريد أن يحقق هدفه الذي لم يستطع تحقيقه سابقاً ألا وهو فصل الأرمن عن اليونان الذين كانت تجمعهم وحدة الإيمان. من هنا فقد لعب السريان دور الوسيط للفصل بينهما .

كان معظم الأرمن مناصرين للتيار الخلقيدونيّ، ومتصلين مع اليونان. لهذا السبب قبلوا المجمع القسطنطينية الثاني (الخامس) الذي لحق بمجمع خلقيدونيا على أنه مجمعاً مسكونياً، حيث قُرأت رسالة أسقف أرمينيا ساهاك الأخيرة الموجهة إلى برُكّلس أمام أعضاء المجمع كلهم. أما البطريرك اللاحق يوحنا بابيغيان (558-574)  فعقد المعاهدة عينها مع اليونان. بينما البطريرك (موفسيس) موسى يغيفارتتسي (573- 604)  الذي لحق ببابيغيان يرفض دعوة القيصر موريك للأتحاد بقوله التاريخي الشهير:" لا أعبر نهر أزاد (أراكس)، ولا أريد خبز خمير، ولا أشرب الخمر المُسخن. مُلمحاً إلى القرابين المستعملة لدى البيزنطيين" .

في هذه الفترة ظهر فريقان، فريق خلقيدوني ممثلاً باليونان، وفريق لا خلقيدوني ممثلاً بالفرس. فتسلم أبراهام الذي لحق بموفسيس الكاثوليكوسية لمدة ثلاث سنوات، وهذا هو أكبر إثبات للقول بأن التيار الخلقيدوني الأرمني قد قوّي في بلاد فارس. لكن سرعان ماتحول أبراهام كاثوليكوس وأصبح إيمانه ضدّ التيار الخلقيدوني. من هنا أصبح لدينا انقسامان: أولهم كان انقسام الكنيسة الفارسية، حيث أنها لم تكن مبتعدة عن التعليم الخلقيدوني بشكل رسمي، وأكبر إثبات على ذلك هو قبول رسالة الإمبراطور زينون. فكوريون أسقفها الذي رسم على يد موفسيس كاثوليكوس الأرمن، تجرأ وانفصل عنهم، فلحق باليونانين المناصرين للمجمع الخلقيدوني. أما الانقسام الثاني هو انقسام الكرسي البطريركي الكاثوليكوسي إلى كرسيين. حيث أن رؤية القيصر موريك بأن أساقفة الأرمن اليونانيين هم خلقيدونيين، أدى إلى اعتبارهم خارج صلاحية الكاثوليكوسية الأرمنية، وقام برسم يوحنا باكاراناتسي  كاثوليكوساً جديداً على أرمينيا .

لكن لحسن الحظ، فإن هذا الانقسام على صعيد الكاثوليكوسية لم يدم طويلاً، لأن الكاثوليكوس كوميداس (611)  الذي جاء بعد الكاثوليكوس أبراهام وحّد كل رعايا أرمينيا الكبرى . ففي هذه الأعوام قام القيصر هراقل الذي تعود جذوره لأصل أرمني، بغزوات حتى وصل إلى ديزبون عاصمة بلاد فارس. فبالتالي حققّ النصر السياسي للتيار الخلقيدونيّ. أما في عهد الكاثوليكوس يزر  وبأمر الامبراطور عُقد مجمع كارين (633)  حيث أقتنع وقَبِل الأرمن بعد دراسة طويلة وتمحيص دقيق بأن المجمع الخلقيدوني خالي من البدعة النسطورية .

تبع تعليم يزر الخلقيدوني البطريرك نرسيس الثالث الملقب بالباني (شينوغ) (641-661) . لكن لم تنقص الضغوط السياسية من قبل اليونان، الذين أرادوا أن يجعلوا من الأرمن تابعين لهم. بينما كان نرسيس في المنفى لمدة ستة سنوات، سأم الأساقفة الأرمن القهر اليوناني، فقاموا بعقد مجمع منزكرت ضد مجمع خلقيدونيا، وكتاب لاوون ومجمع كارين .

بعد هذه الفترة الزمنية بقيت الكنيسة الأرمنية في مهب التيارين المتصارعين، تارة تسلم التيار الخلقيدوني الكرسي البطريركي، وتارة أخرى تسلمه التيار اللاخلقيدوني. وإضافةً على ذلك كانت سياسية القياصرة اليونان تسيء العلاقة بين الأرمن واليونان.

اليوم، يعتقد بعض الباحثين المعاصرين الذين ينتقدون أسباب الانشقاق على القيم و المعايير العلمية الحديثة أنه لم يرفض الأرمن تعاليم خلقيدونيا لأنهم خُدعوا من السريان، أو لأنهم لم يفهوا تعاليم المجمع،  لاختلاف الألفاظ بين المدرستين الإسكندرية والإنطاكية، ولا من أجل أسباب سياسية. إنما موقفهم هو قبل كل شيء ديني ولاهوتي بحت. فالسبب اللاهوتي الذي دعى الأرمن للانفصال هو أنهم رأوا في المجمع الخلقيدوني عودة النسطورية.

لكن المشكلة اللاهوتية المطروحة هنا هي أن أيّ من الفكرين اللاهوتيين أصح؟ فالكتّاب الكاثوليك يؤيدون الفكر اللاهوتي الخلقيدوني، ويسعون ليعرضوا توجهات الكنيسة الأرمنية في القرنين الخامس والسادس، على أنها كانت تقبل بتعاليم المجمع الرابع، ويعتبرون أن الأسباب التي رفضها الفريق الآخر هي التي خلقت تيار لا خلقيدوني. أما الكتّاب المؤيدين للفكر الأرمني ينطلقون من مقولة كيرلس على أنها نقطة الانطلاق. فقد كانوا يبذلون جهوداً حثيثة لزرع الميل اللاخلقيدوني في قلوب البطاركة المعتلين الكرسي البطريركي، أما إذ لم يستطيعوا إقناعهم كانوا ينسبون ذلك إلى الضغوطات السياسية المتأتية من اليونان.  لكن هذه النقطة تحتمل الخطأ لأن المجمع الخلقيدوني لم يحرم كيرلس، بل على العكس اعترف به كأب من أباء الكنيسة، بشرح مقولته الشهيرة وتعليمه القويم. لكن من المحتمل أن تكون ترجمة رسالة البابا لاون غير صادقة. فنقرأ في مقطع من رسالة البابا بأن «كل طبيعة في شخص المسيح تعمل بما هي مختصة به. فالكلمة تعمل بما لها، والطبيعة البشرية بما لها. واحدة تصنع العجائب، والأخرى تتحمل العذاب» . في النص الأرمني ترجمت كلمتا "الواحدة، والأخرى" بـ "أي إنسان، وأي إنسان".  وكلمة إنسان تدل على الشخص وليس على الطبيعة. فمن الأفضل لو ترجمت بـ"هذه وتلك".

بالنسبة إلى الأسباب الأخرى لا يمكننا غضّ النظر عن المشاكل السياسية، التي لعبت دوراً فاعلاً في الكنائس قديماً، وكما اليوم في بعض الدول. إضافة إلى الطروحات العقائدية واللاهوتية لم تنقص في حياة الكنيسة السابقة، حيث أنها أصبحت عناصر التعليم العقائدي الكنسي القويم. لكن للأسف فإن هذه العناصر الدينية أيضاً أصبحت منابع للتخاصم أدت إلى الانشقاق.