روما، الاثنين 3 مارس 2009 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي القسم التاسع من مقالة روبير شعيب حول موضوع “التعليم المسيحي: بين اللاهوت، القداسة، والأبوة الروحية”.
* * *
ثالثًا. التعليم المسيحي كتنشئة على الأسرار
كان آباء الكنيسة يستعملون عبارة ” mystagogy” للحديث عن التنشئة المسيحية التي كانوا يقدمونها للموعوظين. وتشير الكلمة إلى الإعداد والتنشئة (agōgos) على وعي وعيش الأسرار (mustēs). فالتعليم المسيحي (catechesis) هو بالواقع تربية وتثقيف وإعداد لقلب الإنسان لعيش حقيقة سر الإيمان. سنقوم الآن بالحديث بشكل عملي وتطبيقي عن هذه المفاهيم التي تحدثنا عنها في المرات السابقة.
كيف كان يتم الإعداد المسيحي على الأسرار في الماضي؟
كان يجري القيام به في صلب الجماعة، في إطار حياة الجماعة. ولذا يجب أن نعتبر بشكل مسبق أن الإعداد الرعوي المنفصل عن الحياة الكنسية والرعوية. فتدريس الإيمان للأطفال أو للراشدين وكأن الإيمان مجموعة من المعلومات الجديدة التي تضاف إلى سجلات المعرفة السابقة يشكل فهمًا خاطئًا لحقيقة الإيمان الموضوعية، ولطبيعة الأنثروبولوجيا التي لا تستطيع القيام بفعل التزام وجودي نحو حقيقة مجردة. فالإنسان يلتزم حياتيًا فقط في صدد الحقائق الحية “الحقائق الدعوة” التي سبق وتحدثنا عنها آنفًا.
دراسة الإيمان المسيحي بشكل مجرد يماثل دراسة علوم الأحياء (البيولوجيا) عبر تشريح أجساد الموتى. ولكن للأسف غالبًا ما تتبع هذه الطريقة في التنشئة المسيحية، بحيث نقدم للموعوظين، أطفالاً أو راشدين، سلسلة من المعلومات ومن العبارات التي يصعب ربط بعضها ببعض.
إنه لأمر مصيري أن يتم القيام بالتنشئة المسيحية في الكنيسة، في صلب الكنيسة، في صميم قلب الكنيسة النابض، في صميم الحياة الليتورجية والتقليد الكنسي، وحياة في خدمة الفقراء الماديين والروحيين، وحياة الصلاة الفردية والجماعية، والإنشاد والترنيم سوية، وزيارة المرضى، والتبشير… يتم التعليم عبر تطعيم الموعوظ في حياة الكنيسة، وليس عبر تقديم مفاهيم الإيمان في معلبات مع مواد حافظة!
يجب “إنجاب” المؤمنين على حياة الإيمان لا بواسطة البلاغة، بل بواسطة حياة الإيمان.
عنوان مقالتنا يتحدث عن “أبوة روحية” في التعليم المسيحي، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل هذا العمل هو من امتيازات الإكليروس فقط، أم هو أمر يرتبط بدعوة جميع المعمدين، بما في ذلك العلمانيين؟
إذا ما نظرنا إلى التاريخ الكنسي للاحظنا أن الآباء الروحيين العظام الأولين كانوا علمانيين فقراء، لا يتمتعون بتنشئة خاصة، بل كانوا أشخاصًا عاشوا خبرة اللاهوت كخبرة معرفة الله الحياتية. أشير بهذا إلى آباء الصحراء. هؤلاء المسيحيين كانوا يعرفون أيضًا باسم “أنبا”، (ومن هنا كلمة أباتي التي ما نزال نستخدمها في الحديث عن رؤساء الأديار، الذين ليسوا رؤساء اقتصادين، بل آباء روحيين يسهرون ويحرصون على نمو أبنائهم الروحي).
أنطونيوس الكبير، على سبيل المثال، لم يكن كاهنًا، بل كان شابًا سمع كلمة الإنجيل وأراد أن يطبقها بحسب الفهم الذي منحه الرب له لدى سماعه قصة الشاب الغني: “إذهب، بع كل ما لك، أعطه للفقراء، وتعال فاتبعني”. ومع ذلك، فأنطونيوس صار “أبًا للرهبان” ليس كلقب جاه بل كاسم يعبر عن “الخصب الروحي” الذي أسبغه عليه الرب لأجل “عيشه لإرادة الآب”.
وما الغريب في ذلك؟ ألم يقل الرب عينه في الإنجيل: “من يعمل بإرادة أبي الذي في السماوات، هو أخي وأختي وأمي” (مت 12، 50؛ مر 3، 35)؟ من يصغي إلى كلمة الله ويعمل بها يستطيع أن “يلد الله”. يضحي نوعًا ما “ثيوتوكوس”. هذا التعبير ليس أمرًا مبالغًا به، فهو كلمة الرب في الإنجيل، وهناك ركائز في التقليد الكنسي والآبائي لهذا النوع من التفكير. يقول القديس غريغوريوس النيصصي: ” ما تم في مريم بحسب الجسد، يجب أن يتم في كل مسيحي بشكل روحي (بحسب اللوغوس)”. على كل مسيحي أن يضحي “أم المسيح” لا بمعنى أن المسيح يتجسد مجددًا بشكل لحمي. فالتجسد واقع تم مرة واحدة، ولكن، كما يشرح القديس غريغوريوس، في حياة المسيحي وفي أمانته لكلمة الله الحي، يضحي تلميذ يسوع أمًا له يلده في حياة الإخوة.
تقول القديسة كاترينا السيانية: “إذا صرت ما يجب أن تكون، أشعلت نارًا في العالم لن يستطيع أي شيء أن يطفئها”. إذا أضحى المسيحي ما يريد الله منه أن يصير، أصبح حقلاً خصبًا ينمو فيه غرس الله.
هذا الأمر أدركته بشكل رائع القديسة تريزا الطفل يسوع، وعلى خطاها، وعى الأمر نفسه الراهب المريمي الراقد في أريج القداسة، جناديوس موراني، حيث يتحدث موراني معلقًا على مقطعين كتابيين: الأول هو الخلق، عندما يتحدث كتاب التكوين حيث يقول الكتاب رمزيًا عن الخلق أن أتمّ الله عمل الخلق واستراح. والثاني هو مقطع صلب المسيح في إنجيل يوحنا حيث يقول النص أن يسوع صرخ: “قد تمّ” وأسلم الروح. ويعلق موراني على هذين النصين فيلاحظ أن الخلق هو عمل لم ينته بعد، فهناك استمرار في الخلق والتكوين إذا جاز التعبير، وكذلك الفداء، هو عمل لم ينته بعد، فالمسيح قام بدوره ولكن يبقى دور المسيحيين لكي يتحدوا بالرب ويحققوا هذا الفداء في ذواتهم وفي النفوس. وبالتالي، مرتكزًا على تعليم القديس تريز الطفل يسوع، يشدد موراني على أهمية دور الإنسان في “تمام” الخلق والفداء. العروس قد وهب ذاته ولكنه ين
تظر “عرائس” يهبن ذواتهم لإنجاب النفوس إلى الحياة الأبدية.
* * *
– روبير شعيب يعلم “الكريستولوجيا” و “مدخل إلى الفكر اللاهوتي الآبائي” في مدرسة الرسالة في فلورنسا إيطاليا، ويقوم حاليًا بكتابة أطروحة دكتورا في اللاهوت الأساسي في جامعة الغريغوريانا الحبرية في روما حول موضوع “معاني وحواس الإيمان. نظرة إلى الأبعاد ما قبل وما بعد العقلية في فعل الإيمان”، كما ويعمل كصحفي لوكالة زينيت العالمية.