روما، الأربعاء 4 مارس 2009 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي القسم الحادي عشر والأخير من مقالة روبير شعيب حول موضوع “التعليم المسيحي: بين اللاهوت، القداسة، والأبوة الروحية”.
* * *
صفات الأب الروحي
تحدثنا في القسمين السابقين عن التنشئة المسيحية كأبوة روحية، وعرضنا أيضًا الأبوة الروحية في تعليم القديس بولس. نتوقف في هذا القسم الأخير من مقالتنا على بعض الخصائص التي يجب على الأب الروحي – بحسب التقليد الكنسي – أن يتمتع بها.
يقدم الكاردينال توماش شبيدليك، الخبير في اللاهوت الروحي الشرقي، بعض خصائص الأب الروحي.
أولها وأهمها: (pneumatikos) أن يكون “روحانيًا” أي مملوءًا من الروح القدس: أي أن يكون ممتلئًا من حياة الشركة مع الله.
ثانيًا: (theologia) أن يكون ممتلئًا بمعرفة الله، متسربلاً بالله (theophoros). وهنا ندرك أهمية “اللاهوت” المفهوم لا كمادة علمية بل كواقع وجودي وروحي. اللاهوت، كما سبق وأوضحنا هو معرفة الله. هذه المعرفة التي ترافقها بشكل محتم معرفة الذات. بحيث يرفق القديس أعسطينوس صلاته من أجل معرفة الله بالصلاة من أجل معرفة الذات: “ noverim me noverim te “.
ثالثًا: التطلع (theoria)، والذي يحتاج بدوره إلى الانتباه (prosoché) وإلى الصلاة (proseuché). فالصلاة والانتباه الروحي يتماشيان سوية، وهما واقعان هامان يجعلنا من اللاهوت واقعًا خصبًا يغذي القداسة والولادة إلى الحياة في الروح القدس.
رابعًا: معرفة القلوب والضمائر (Cardiognosia): الآباء الروحيون هم أشخاص يعرفون القلوب والضمائر. بحسب آباء الصحراء، هذه القدرة ليست أمرًا فائق الطبيعة بل قدرة طبيعية تتحلى بها النفس البشرية. معرفة القلوب تتطلب قلبًا نقيًا، ويشرح الكاردينال شبيدليك: “لقد خلقنا الله لكي يفهم أحدنا الآخر. لقد أدت الخطيئة إلى إقامة أسوار فصلت قلوبنا بعضها عن بعض. أما تطهير القلب فيساعدنا إلى تحطيم هذه الحواجز”.
يربط الفيلسوف الروسي نيكولاي بردياييف (Nicolai Berdjaev) بين الحب والمعرفة فيساعدنا على فهم أكبر لصفة “معرفة القلوب”. يقول: “أن نحب شخصًا ما يعني أن ندرك وحدته في تغيره المستمر وفي تحوله، الحب هو حدس لعظمته ولفقره. الحب هو ولوج في عالمه الموضوعي وتبحر في وجوده الباطني حيث تضمحل الموضوعية لتفسح المجال للأنا”. عندما أحب شخصًا ما لا يعود ذلك الشخص موضوع معرفة، بل يضحي “هو” “أنا” في حضرة “أناي”، وعندما أنظر إليه أراني منظورًا إلي (je me vois vu). وعليه فالحب هو “حدس الشخص الآخر”.
يقول جان فانييه، مؤسس جماعة “الفلك” التي تعنى بالمعوقين: “أن نحب شخصًا ما يعني أن نساعده لكي يكتشف جماله”. مساعدة الآخر على اكتشاف جماله تتطلب مني أن أكتشف الجمال المقيم فيّ، وأن أكتشف ذاتي كشخص. وهذا ليس أنانية. فالأنانية إنطواء على الذات، أما اكتشاف الذات كشخص منفتح جوهريًا على الحضور لآخر، فهو عكس الأنانية، وهو تحقيق الجمال. يتابع بردياييف: “إحقاق الشخص مرتبط صميميًا بالتضحية والتخلي، بالانتصار على الأنانية، ولكن لا باللامبالاة بالذات”. وعليه معرفة القلوب، تنبع من معرفة الإنسان لقلبه ولسبره في حضرة الله وبفضل روح الله الذي يسبر روح الإنسان (راجع مز 139).
خامسًا: التمييز (Diakrisis): من يعيش في الله ينمي في فردوس قلبه شجرة معرفة الخير والشر الحقة، يحوز في قلبه عين الله. يقول الرب لإرميا النبي في هذا الصدد: “إن رجعت إلى قبلتك فتقف بين يدي وإن ميزت النفيس من الخسيس صرت كفمي” (راجع إر 15). من يقف في حضرة الله، من يتوب إلى الله يبدأ بتمييز الخير من الشر، ويضحي كفم الله، وكـ “سفير الله” وكأن الله ينطق بفمه (راجع 2 كور 5).
سادسًا: الأمانة إلى التقليد (traditio): فالأب الروحي يأخذ أبوته في صلب أبوة الله الآب وفي حضن الكنيسة الأم. وهو أب حقًا بقدر ما يكون ابن حقًا لله الآب في الكنيسة.
سابعًا: الشفاعة (intercessio). الأب الروحي يقوم بدور إبراهيم الذي يشفع بأهل سدوم وعمورة، وموسى الذي يشفع بإسرائيل في حضرة الله، والأنبياء، ويسوع المسيح الذي صلى لأجل خاصته دومًا، وبشكل خاص في الصلاة الكهنوتية التي يقدمها الإنجيلي يوحنا لا ليجعل منها الصلاة الوحيدة التي يرفعها يسوع ككاهن وجودي، بل كتعبير عن ما تردد دومًا في قلب يسوع المصلي والشفيع.
فلنختتم هذه الدراسة بصلاة للقديس بولس، تشكل تطبيقًا عمليًا وروحيًا للترابط بين القداسة واللاهوت والأبوة الروحية:
“لهذا أجثو على ركبتي للآب، فمنه تستمد كل أبوة اسمها في السماء والأرض، وأسأله أن يهب لكم، على مقدار سعة مجده، أن تشتدوا بروحه، ليقوى فيكم الإنسان الباطن، وأن يقيم المسيح في قلوبكم بالإيمان، حتى إذا ما تأصلتم في المحبة وأسستم عليها، أمكنكم أن تدركوا مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعلو والعمق، وتعرفوا محبة المسيح التي تفوق كل معرفة، فتمتلئوا بكل ما في الله من كمال. ذاك الذي يستطيع، بقوته العاملة فينا، أن يبلغ ما يفوق كثيرا كل ما نسأله أو نتصوره، له المجد في الكنيسة وفي المسيح يسوع على مدى جميع الأجيال والدهور. آمين” (أف 3، 14 – 21).
* * *
– روبير شعيب يعلم “الكريستولوجيا” و “مدخل إلى الفكر اللاهوتي الآبائي” في مدرسة الرسالة في فلورنسا إيطاليا، ويقوم حاليًا بكتابة أطروحة دكتورا في اللاهوت الأساسي في جامعة الغريغوريانا الحبرية في روما حول موضوع “معاني وحواس الإيمان. نظرة إلى الأبعاد ما قبل
وما بعد العقلية في فعل الإيمان”، كما ويعمل كصحفي لوكالة زينيت العالمية.