بقلم الأب الياس جانجي
روما، الأربعاء 4 مارس 2009 (Zenit.org). – بعد أن عرضنا في القسم الأول والثاني تعليم مجمعي نيقيا والقسطنطينية، ننتقل الآن إلى الحديث عن مجمع أفسس.
* * *
1ـ3. مجمع أفسس 431
إن الصراع العقائديّ حول ألوهيّة السيّد المسيح وحول الثالوث الأقدس ومساواة الأقانيم في الجوهر، في القرن الرابع الميلاديّ انتهى بانتصار الأرثوذكسيّة في المجمع المسكونيّ الثانيّ في القسطنطينية كما ذكرت سابقاً. وتم تأكيد قانون الإيمان النيقاويّ الذيّ صاغه آباء المجمع مع إضافة الجزء الخاص بتأكيد ألوهية الروح القدس الرب المحيى المنبثق من الآب. وبذلك تم صياغة عقيدة الثالوث القدوس وهي الإعتقاد بثلاث أقانيم متساوين في المجد والصفات ولهم نفس الجوهر الإلهيّ الواحد. إلا أن الصراع لم ينته هنا، حيث كان هناك صراع عقائديّ حول شخص السيد المسيح وطبيعته. هل يعقل أن يكون السيد المسيح هو ابن الله وابن الإنسان في نفس الوقت. أي هل هو هو نفسه، وبنفس شخصه الكلمة الإله الحق المولود من الآب بغير انفصال قبل كل الدهور، والإنسان التام الذي بلا خطيئة وحده، المولود من القديسة العذراء مريم في ملء الزمان. مساو للآب في الجوهر من حيث لاهوته، ومساو لنا في الجوهر من حيث ناسوته . بعض الهراطقة لم يفهموا سر التجسّد الإلهيّ، فكيف يمكن لله أن يظهر في الجسد. وهكذا تعددت الهرطقات حول هذه العقيدة العظيمة أي سرّ التجسّد الإلهيّ لخلاص البشرّية.
1ـ 3ـ1. الهرطقات التي أدت إلى عقد المجمع
استمرت الهرطقات بعد مجمع القسطنطينية، فى الهجوم على العقيدة الأرثوذكسّية، وظهر في أنطاكيا واعظ قدير يدعى نسطوريوس . وأراد أن يحارب الأريوسيّة التي تنكر لاهوت الابن وتنكر مساوات الابن للآب فى المجد والكرامة والربوبيّة، فاستمر يدافع عن اللوغوس ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور. فقال أن اللوغوس مثل الآب تماماً لا يموت ولا يتألم ومنزه عن الاتحاد بالمادّة، وهو قد تجسّد وأخذ جسداً بشريّاً مثلنا تماماً. فلم تعد ألوهيّة المسيح أو إنسانيته موضوع شكّ، لكن السؤال يكمن عن كيفية اتحاد كائنين كاملين. فسؤال نسطوريوس يكمن في كيفية اتحاد الله الكلمة بالإنسان يسوع في التجسّد . إن سؤاله ليس فقط انتولوجيّ بل يتعداه ليصل إلى التساؤل الدينيّ الجوهريّ أي إلى السوتيريولوجيّ، هل يعقل أن يعاني “كلمة الله” من إهانات التجسّد والولادة والحياة الزمنية والموت على الصليب . واعتبر أن المسيح قد ورث الخطيئة الأصليّة كإنسان وأنه قدَّم نفسه ذبيحة عن نفسه وعن العالم كله. وأن اللوغوس قد سكن فيه ورافقه من البطن وأعطاه كرامته وألقابه وسلطانه وصورته ومشيئته . وبذلك أعطاه سلطاناً أن يصنع كل ما صنع من المعجزات وأن يأخذ لقب ابن الله على سبيل التكريم وأنه ليس إلهاً حقيقيّاً. فقال أن الذي يولد من الإنسان هو إنسان وليس إله، وأن كل طبيعة تلد ما يناظرها وقال أن اللوغوس قد رافق يسوع الناصريّ في آلامه وقواه ليحتمل الصلب واتخذه كأداة لخلاص البشريّة.
ورفض أن يدعو العذراء والدة الإله وبالرغم من أنه تلّقن من أستاذيه ديودورس الطرسوسّي وثيودورس الموبسويستيّ أنها والدة الإنسان ، فقد حاول المراوغة وتغطية فداحة هرطقته بحيلة جديدة حينما وجد الصراع يحتدم بين أنصار “الثيئوطوكوس” و”الأنثروبوطوكوس”، فقال أنه ينبغي أن ندعو العذراء والدة المسيح “كريستوطوكوس”، وقال أن لقب “ثيئوطوكوس” يخص الآب السماويّ وحده في ولادته للابن قبل كل الدهور .
كما اقتبس نسطوريوس من هرطقة أوريجانوس فكرة أن الروح الإنسانيّ هو الواسطة أو الوسيط بين اللاهوت والجسد، لأن الله منزه عن الاتصال بالمادّة. وفى ذلك يكون – في نظر نسطوريوس- أن الله الكلمة قد اتصل بالإنسان يسوع بدون اتحاد بين الطبيعتين بل باتحاد الصورة والهيئة الخارجيّة. واتصل به عن طريق روح يسوع الإنسانيّ. وعندما سلّم يسوع روحه على الصليب يكون الله الكلمة قد فارق جسد يسوع مفارقة تامة؛ لا اتحاد ولا حتّى اتصال بل مجرد جسد لا علاقة له باللاهوت على أى مستوى .
بعد انتشار آراء نسطور من القسطنطينية إلى ولايات أخرى، وجد كيرلس أنه من الملائم إيقاف هذه الأفكار، وحدّها من الانتشار بسبب هرطقتها. وبالأخص حين بدأت تنتشر بين رهبان مصر الكثيرين.
من الأسباب التي أدت إلى عقد هذا المجمع أيضاً كانت هرطقة بيلاجيوس الذي سقط في التطرّف المعاكس للمذهب الماني وللغنوصيّة وذلك لشدة تخوفه منهما. ويمكن تلخيص تعاليمه على الشكل التالي بأن خطيئة آدم تنحصر بآدم فقط، والأولاد الذين يولدون لا يحملون هذه الخطيئة ولا يولدون بالآثام بل هم أبرياء. وهم ليسوا محتاجين إلى المعمودية إلا للاتحاد مع المسيح، وليس لمغفرة الخطايا كما صرّح دستور الإيمان. كما أن الإنسان لا يحتاج إلى النعمة ليعيش حياته، بل يمكن أن يعيش دون أن يرتكب أية خطيئة .
1ـ3ـ2. تحديده الإيمانيّ
بعد مدة طويلة من الخلافات مع أتباع نسطوريوس، دعا الإمبراطور إلى عقد مجمع مسكونيّ يشارك فيه الأورثوذكسييّن والنساطرة وذلك لتسوية الخلاف. قبل إصدار أية أحكام أو إبسالات، حدث خلاف بين المجتمعين الذي يمثل أحدهم المدرسة الإنطاكيّة والآخر الذي يمثل المدرسة الإسكندريّة. فقام الطرف الثاني بحرم الأول وكذلك العكس. حتى وصل الأمر إلى تحطم أواصر الشركة بين الطرفين وسعى الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني ليعيد السلام مستخدماً نفوذه. إلى أن تمّ
الصلح بعد سعي الطرفين .
كان للبابا كيرلس دور كبير في المجمع حيث اعتمد الآباء على كتاباته وتحليله وإيمانه .كان لاهوته يعتبر تفسيراً لقانون الإيمان والكتب المقدسة. لم يضف آباء المجمع أية كلمة على قانون الإيمان النيقاويّ – القسطنطينيّ. إلا أنهم قاموا بشرح معنى التجسّد، واعتمدوا مصطلحات جديدة مثل “أم الله” والوحدة في الشخص. فهذا المجمع جاء بشكل تفسيريّ ولاهوتيّ لكلّ ما سبقه من مجامع. وذلك اعتماداً على الكتب .
وقع المجمع خلال إصداره الحكم بالعديد من المشاكل ، وأهمها المشاكل اللغويّة ولاسيّما الاختلاف الفلسفيّ بين لفظتي Physis (طبيعة) و Hypostasis(أقنوم). فحين تحدّث كيرلس عن الطبيعة الواحدة قصد معنى الشخص الواحد، فكان كيرلس يرفض كلام نسطوريوس قائلاً: إن للمسيح طبيعتين. ومن جهة ثانية كان نسطوريوس يدّعى أن للمسيح طبيعتين اثنتين لكنه كان يستخدم لفظة Hypostasis بمعنى مختلف عن معنى كيرلس الذي كان يأخذ اللفظة بالمعنى اللغويّ الدقيق. لذلك رفض كيرلس تعاليم نسطوريوس . كما أن كلمة أقنوم عند كيرلس تعني الشخص مع الطبيعة التي يحملها. وعبارة الاتحاد الاقنوميّ تعني اتحاد طبائع في شخص واحد بحسب الطبيعة، أي تعني الاتحاد الطبيعيّ للطبيعتين في شخص واحد . قَبِل كيرلس الإسكندريّ بلغة المدرسة الانطاكيّة ، وكذلك يوحنا الإنطاكيّ قبِل بلغة المدرسة الإسكندريّة ، ولكن بعد حين. وهذا يدل على قبول آباء المجمع بتعددّية التعابير اللاهوتيّة (الوحدة الكيرلسيّة – التمييز الإنطاكيّ).
يمكننا أن نطلق على لاهوت مجمع أفسس تسمية “اللاهوت التنازليّ” على عكس لاهوت مجمع نيقيا الذي يعتبر “لاهوت تصاعدي”. إذ أنه ينطلق من ألوهية المسيح التي حددها مجمع نيقيا، ويعتبر بإنسانيته التي كانت محدّدة مسبقاً ويتسائل عن الطبيعتين وعن كيفية الاتحاد بينهما .
من خلال الدراسات والحوارات الحديثة التي قامت بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة النسطورية، تبين بأن الخلافات مع هؤلاء لم تكن في جوهرها خلافات عقائدية أو لاهوتية، بل خلافات لغوية. فثمة امكانية مقاربة بين الطرفين حول عقيدة واحدة.
هكذا كان الصراع الفكريّ خلال القرون الأربعة الأولى للمسيحيّة في المشرق، حيث أنه تحلى بوجه سياسي أحياناً، وبوجه آخر عقائدي وكنسي وسلطوي. كل هذا مهد لمجمع خلقيدونيا الذي يعتبر محور أساسيّ في تاريخ الكنيسة، بالإضافة إلى كونه مفتاح الخلاف بين الكنائس الشرقيّة والغربيّة، أي بين التي أقرت تعاليمه وبين التي نبذتها.