بقلم الأب بيار نجم المريمي
باريس، الثلاثاء 11 مارس 2009 (Zenit.org). – لقد كان لحدث البشارة في أنجيل لوقا وقعه الهام في التاريخ الكنسيّ من الناحية الكتابيّة، اللاّهوتيّة، الأدبيّة وحتى الفنّية. حدث، كما أوردنا، من الأهميّة بغاية لأنّه حدث لا يتعلّق حصراً بمريم العذراء من ناحية شخصها التاريخي، ولو حصرنا البشارة بواقع مريم التاريخيّ لغاب عنّا المعنى اللاّهوتيّ والأنتروبولوجيّ الأعمق الّذي يحمله هذا الحدث المحوريّ في عالم الإيمان المسيحيّ.
لنفهم هذا الحدث بمعناه الأعمق لا بدّ أولاّ من الإشارة الى الخلفيّة الكتابيّة والثقافيّة التي يستند اليها، ومن ثمّ الإشارة الى المعنى اللاّهوتيّ الكريستولوجيّ الماريولوجيّ وصولاً، في مرحلة ثالثة الى المعنى التطبيقيّ الوجوديّ من ناحية تجسيد للإنسان العلائقيّ، مخلوق في علاقة مع الله، مدعوّ الى تجسيد البشارة وتفعيل الكلمة المعلنة في علاقته الوجوديّة مع الآخر المختلف.
الخلفيّة الكتابيّة
عدة تعابير يستعملها لوقا في نصّ البشارة تعيدنا بطريقة غير مباشرة الى عدّة اسفار من العهد القديم لاسيما الى قصة الخلق في سفر التكوين، والى رواية الخروج وولادة الشعب.
فالرقم ستة الذي يستعمله لوقا، والذي اذا قرأناه على هدي رمزية الأرقام المعتمدة في الكتاب المقدس عامة يجعلنا نعود الى اليوم السادس، يوم اخراج الانسان من العدم الى الوجود. والدليل الثاني الذي يجعلنا نربط نص البشارة بنص الخلق هو قول الملاك "روح الحب يظلّلك" والذي يذكّرنا بروح السيد المرفرف على المياه في بداية الخلق.
مع المحافظة على البعد التاريخي لنص العهد الجديد يجدر بنا التنويه الى ان قصة البشارة هذه كتبت لجماعة لم تعرف المسيح شخصياً وفي طور قبول البشارة، وفي اطار توضيح المفاهيم اللاهوتية مستندةً خاصة الى العهد القديم، وبالتالي لا يمكن أن نفهم هذا النص دون استخراج الأبعاد اللاهوتية التي تتوضح على ضوء لاهوت العهد القديم.
محتوى البشارة يتلخّص في ثلاثة إعلانات يرتبط كلّ واحد منها بحدث محوريّ في ماضي الشعب في العهد القديم:
- روح الرب يحلّ عليك: يعيدنا الى سفر الخروج وروح الرّب الحالّ على المياه، تعود بنا الى الخلق وفترة الخروج من العدم الى الوجود وبالتالي الى الدخول في علاقة صداقة بين الله الخالق والإنسان المخلوق على نطاق الشخص البشري إنما على المستوى الفرديّ.
كلمة الرّب أخرجت الإنسان من العدم الى الوجود، كلمة تنتظر تجسّدها في ملء الزّمن. كيف؟
- وقوّة العليّ تظلّلك يعيدنا الى قوّة الله المرافق للشعب في خروجه من أرض العبوديّة المظلّل خباء المحضر وتابوت العهد بعمودي النار والغمام. هي قصة وعد الله وكلمته التي تحوّلت جماعة. ومن ناحية الإنسان العلائقيّ، يتكوّن هنا الكائن في علاقة مغلقة، في شعب واحد وشريعة واحدة، حيث لا مجال للإختلاف ولا وجود للمختلف. تكوّن الشعب صار ايضاً بالكلمة، بالكلمة الإلهيّة، وفي العبريّة rb'D' تعني كلمة وتعني أيضاً وصيّة، والشعب الخارج من أرض العبوديّة تكوّن كشعب على قمة سيناء، حين نال موسى الكلمات العشر، الوصايا العشر. هذا الحدث التأسيسيّ للجماعة المؤمنة بالله بقي كلمة تنتظر تجسّدها في ملء الزمن، بمريم المؤمنة القابلة الكلمة- الوصيّة، المسيح نفسه، كلمة الله ووصيّته، وصيّة المحبّة المتجسّدة.
- والمولود القدّوس منك يُدعى ابن الله: وهذا الإعلان يعود بنا الى وعود الأنبياء بشكل طبيعي، إنّما أيضاً تتميم نبوءة ناتان النبيّ لداود بأن من نسله يأتي من يرث الى الأبد ولا يكون لملكه انقضاء. تجدر الإشارة الى ان الأصل اليونانيّ يقول: "كاي تو غينومينون أغيون كليثيسيتاي أُي أوفثيوو" وحرفيّا: وما هو خارج قدّوس منك سيُدعى ابن الله. ليست بالشكل المذكّر للتعبير عن الخارج كأنّه المولود الخارج، بل هي بحال ال Neutre ما هو قدّوس وليس الّذي هو قدّوس. هذا الإستعمال لم يكن بالطبع ناتج عن جهل بأدنى مباديء اللّغة، إنّما لأن هذه الولادة، الحدث المحوريّ في خلاص البشريّة، الّذي تمّ في ملء الزمن ولمرّة واحدة من الناحيّة التاريخيّة يجب ان يتمّ في حياة المؤمن كلّ يوم بشكل آخر، بشكل روحيّ لا جسديّ، لذلك يقول الملاك لكلّ مؤمن، ومن خلال كلمته لمريم: "ما هو قدّوس يولد منك، وهو من الله".
* * *
الأب بيار نجم، راهب ماروني مريمي. درس الفلسفة في جامعة الروح القدس – الكسليك (لبنان) واللاهوت في جامعة مار توما الأكويني الحبرية في روما. ثم تخصص باللاهوت الكتابي في المعهد البيبلي الحبري في روما. وهو يقوم الآن بدراسة لنيل شهادة الدكتورا في باريس.