بقلم روبير شعيب
روما، الثلاثاء 10 مارس 2009 (Zenit.org). – نقرأ في قصيدة للمفكر والشاعر الأرجنتيني، خورخي لويس عما يمكننا تسميته “نشأة المأساة”:
“يونانيان يتحاوران: ربما سقراط وبارمينيد.
من المستحسن الاّ نعرف اسميهما أبدًا؛
فهكذا ستكون القصة أكثر غموضًا وهمودًا.
موضوع الحوار مجرّد.
يتطرقان أحيانًا إلى أساطير لا يؤمن أيٌ منهما بها.
البراهين التي يعرضانها قد تزخر بالأخطاء، ولا تسعى إلى غاية.
لا يتجادلان.
ولا يريدان لا أن يَقْنَعا ولا أن يَقْتَنعا
لا يرغبان لا بالظفر ولا بالخسارة.
هما متفقان على أمر واحد:
يدركان أن النقاش هو السبيل غير المستحيل الذي يقود إلى الحقيقة.
معتقَين من الأسطورة ومن التشبيه، يفكران، أو بالحري يحاولان التفكير.
لن نعرف أبدًا اسميهما.
هذا الحوار بين مجهولين في مكان ما في اليونان
هو حدث التاريخ الأكبر.
لقد نسيا الصلاة والسحر” (خورخي لويس بورخس، المبدأ).
تعبر قصيدة بورخس هذه عن بزوغ فجر تاريخ الفكر الغربي، عن “مبدأه” كما يوحي عنوان القصيدة، ويربط هذا المبدأ بمأساة نسيان “الصلاة والسِحر”. هذا “المبدأ” هو الحدث الأكبر الذي طبع ووسم مسيرة حياة الفكر من الفلاسفة الإغريق فصاعدًا.
وما كان للتاريخ اللاحق إلا أن وسع وعمق ما كان في المبدأ، وصولاً إلى نتائج العصر الحديث. فقد أزال العصر الحديث بشكل منتظم “الصلاة”، أي كل علاقة مع التسامي، لأنه لا يمكن حصره وإدراكه بواسطة الحس المنطقي البحت، والعقل المجرد وحده. وأزال “السِّحر”، أي كل ما يشكل إطار الواقع الذي يتخطى مقاييس العقل الحسابي والمنفعي.
السحر هو التشبيه (meta-fora)، الذي يحمل الفكر أبعد من حدود العقلية المنقطية الحسابية. السحر هو الشعر والبلاغة وكل ما هو ثمرة الخيال الخلاق. السحر يعني اللقاء بين حريتين تتواصلان، وتتقاربان، وربما تتحابان، دون أن تتبعا سبل منطقية محددة بشكل مسبق؛ السحر يشير إلى كثافة كل العناصر التي تتجاوز العقلية البشرية دون أن تكون لأجل ذلك غير واقعية. يعبر السحر عن تألق خاصية الكائن الثالثة، “الجمال” (pulchrum)، إشعاع بهاء الكائن الذي يجعل الحق (verum) مرغوبًا والخير (bonum) قابلاً للتطبيق. السحر يشكل “الجمال المتجرد الذي من دونه لم يكن بإمكان العالم القديم أن يفهم ذاته، والذي فر هاربًا على رؤوس أقدامه من العالم الحديث النفعي، لكي يخليه تحت رحمة شبقه وكآبته” (هانس أورس فون بالتازار، المجد، المجلد الأول، ظهور البنية).
إن الفضل الأكبر للفكر الغربي هو أنه اكتشف “اللوغوس” (logos) في خراب (caos) التاريخ والكون (cosmos)، ولكنه تعرض لأجل هذا الاكتشاف، في حقبات مختلفة، لتجربة أن يختزل اللوغوس جاعلاً منه فكرة مجردة سجينة المنطق، متغربة عن لوغوس الحياة والخبرة، عن اللوغوس الذي يتجاوز فكر الإنسان، ويساعد الإنسان على تجاوز محدوديته لكي يحقق دعوته السامية في الخروج من ذاته نحو الآخر. لقد خضع الغرب، في حقبات مختلفة لتجربة تحويل اللوغوس إلى أمر غير شخصي وبارد، وأن يجعل الفكر يتولد من النقاش.
ولربما الحقبة التي جسدت الوقوع في هذه التجربة هي العصر الحديث الذي أدخل فصلًا، لا بل طلاقًا في علم المعرفة (gnoseologia)، مغيرًا الوعي الذاتي للإنسان، ومؤثرًا بذلك باللاهوت، من خلال إخضاع الدين لأحكام العقل وحده. يستنكر بالتازار هذا الأمر لافتًا إلى أن “الجمال لم يعد محبوبًا ومحروسًا، ولا حتى في رحاب الدين” (المرجع نفسه). يمكننا أن نلاحظ هذا الأمر بسهولة في كثير من مؤلفات اللاهوت التي يطغى فيها إدعاء العلمية، لدرجة أنه بات مستحيلاً – وغير علمي – عيش اللاهوت كما كان يعيشه آباء الكنيسة. نلاحظ أصداء هذا الأمر في الليتورجية الغربية التي نفت الطابع الرمزي، بحيث باتت الحركات الجسدية محدودة جدًا، وتعاش الليتورجية على صعيد باطني وفكري محض، نافية البعد الميستاغوجي الجوهري في الليتورجية، بعد خبرة الله الذي أدى إلى ربط الفهم اللاهوتي (قانون الإيمان) بالصلاة الليتورجية (قانون الصلاة):Lex orandi statuit legem credendi). (راجع ر. تافت، ما وراء الشرق والغرب، في سبيل ليتورجية حية).
سنحاول في الأقسام المقبلة من هذه المقالة أن نسير في سبل نشأة ونمو العقلية الحديثة، فنقدم نظرة ظواهرتية تاريخية لهذه النشأة، ولتأثيرها في الوعي الإيماني، ومن ثم في الفلسفة. ندرك حق الإدراك أن الحداثة هي ظاهرة معقدة جدًا، ولذا سنتوقف على دراسة بعدين هامين ومترابطين. الأول هو العقلية (razionalismo)، بينما البعد الثاني، فهو الإلحاد باسم التطور الذي بشرت به العقلانية. قبل أن نباشر في التعمق في نقدنا للعقلية، نود أن نوضح أن الغاية من بحثنا ليس نقد العقل، بل إفساح المجال، عبر التبحر العلمي، والفلسفي والوجودي، واللاهوتي لعقلانية “موسعة” تدخل في إطار تكامل خبرة المعرفة البشرية، وتحترم طابع موضوع المعرفة الدينية الذي ليس موضوعًا بالمعنى الحصري بما أن موضوع إيماننا هو أقنومي وشخصاني.
(يتبع)