بقلم روبير شعيب
روما، الثلاثاء 17 مارس 2009 (Zenit.org). – بعد أن عرضنا – ربما بشكل بدا فلسفيًا جدًا، أو معقدًا – تطور فكر ديكارت الذي فصل الترابط الطبيعي في حقل المعرفة بين العقل والعيش، ننتقل الآن استعراض نتائج هذا الفصل في حياة الإيمان.
الطلاق بين اعتراف الإيمان (confessio fidei) وفكر الإيمان (intellectus fidei)
النتيجة اللاهوتية الأولى للعقلية الديكارتية هي محاولة اعتبار الإيمان على ضوء لوغوس (فكر) محدود، ومنفصل عن الحياة. وهكذا دخلت العقلية كعنصر مؤسس للفكر اللاهوتي، ويؤدي إلى تجميد الدورة الحيوية القائمة بين حياة الإيمان وفهم الإيمان، بين عيش الإيمان ومحتواه. بعد أن سادت هذه الوحدة في الفكر المسيحي وصولاً إلى القرن الثالث عشر، تضحي المعرفة اللاهوتية حكرًا على الفلسفة.
بعد عملية "التحويل الجوهري" (transustanziazione) من الفلسفة إلى اللاهوت، التي قام بها الآباء وكبار مطلع الألفية الثانية، حيث تم تحويل ماء أثينا إلى خمر أروشليم، (بحسب قول توما الأكويني)، ظهر جيل يميل إلى فصل الفلسفة بشكل كبير في إطار وحدة اللاهوت ويبدأ تحجير الخبرة الإيمانية في مفاهيم ضيقة. يبدأ ما يصفه فون بالتازار بعيش "لاهوت الطاولة" بدل "لاهوت الركوع" (H.U. von Balthasar, “Teologia e santità”, in Verbum Caro. Saggi teologici).
إنطلاقًا من هذه العلاقة الجديدة بين الفلسفة واللاهوت، نشأت علاقة جديدة بين اللاهوت والحياة الروحية، بين الفكر اللاهوتي (mens theologica) والوجود اللاهوتي (existentia theologica). وهذا الطلاق أثر بشكل سلبي على الواقعين: فالحياة الروحية التي كانت إلى فترة متقدمة من تاريخ المسيحية محرك اللاهوت والشهادة الكنسية، بدأت تتحرر من التفكير العقائدي وتميل إلى إقامة فرح دراسي خاص بها "التقشف والصوفية"، التي ستعرف في ما بعد بـ "الروحانية" (spiritualità). تولد ردة الفعل هذه من فكر لاهوتي يحدده الفهم المسبق الفلسفي، بحيث تستلم الحياة الروحية للحميمية وعدم الموضوعية الفردانية، ونقص في الحس الكنسي الجماعي والليتورجي.
الاختزال الديني الناشئ عن النزعة العقلية
بعد الفصل بين اعتراف الإيمان وفهم الإيمان، أضحى موضوع الإيمان خاصة العقل المنفصل. إنطلاقًا من قناعة ديكارت بأن مسألة الله هي مسألة تتعلق بالفلسفة، كما سبق ورأينا. باعتبارهم الله والنفس مسائل فلسفية، توصل اللاهوتيون المتأثرون بديكارت إلى تطبيق الشك المنهجي على المعتقدات الدينية بالذات، رغبة منهم في تدعيمها إنطلاقًا من مبادئ واضحة.
بهذا الشكل تبدأ المحاولات اللاهوتية التي يقدمها ميغيل دي أليزالدي اليسوعي (1616 – 1698) وتلميذه ثيسوس غونزالز دي سانتالاّ (1624 – 1705) اللذان صرحا بأن "واقع الوحي وحقيقة الإيمان المسيحي هي أمور يستطيع أن يقدم العقل المجرد برهانًا عنها" (راجع أ. دالس، ركيزة الأمور المرجوة، بريشا 1997، 88). لا بد أن نوضح أن هذا البرهان، بالنسبة لهما، لا يشكل بعد ركيزة الإيمان بل تمهيدًا (preambolo) ومُسَلَّمة (presupposto) للإيمان. سيتوصل بعض اللاهوتيين في ما بعد إلى موقف متطرف بشأن دور العقل في اللاهوت عبر قيامهم بنوع من عزل (epochê) للعنصر الديني الموحى وصولاً إلى إخضاع اللاهوت بالكامل إلى معايير العقل، حيث تضحي ركيزة الإيمان، لا الوحي، بل العقل البشري.
يقوم اللاهوتي المعاصر مايكل باكلي (M.J. Buckley) بدراسة هذا "العزل" الفلسفي الذي قام بها اللاهوتيون خلال العصر الحديث، ويقدم مثال اللاهوتي البلجيكي ليسيوس (Lessius) الذي يكتب " De providentia numinis et animi immortalitate" في عام 1631. لقد أدخل ليسيوس في جامعة لوفيين التعليق على الخلاصة اللاهوتية للقديس توما، بدل التعليق على أطروحات بطرس لومباردوس. وبدل اعتبار مسألة وجود الله التي تفتح الخلاصة اللاهوتية انطلاقًا من البعد الديني، كان ليسيوس يستعرض المسألة من منحى فلسفي بحت، إن من الناحية المنهجية وإن من ناحية المضمون (راجع م.ج. باكلي، "الإلحاد"، في ر. لاتوريل – ر. فيزيكيلاّ، قاموس اللاهوت الأساسي، أسيزي 1990، 86). إضافة إلى ذلك، قام ليسيوس بإزلة كل المسألة التي تتعلق بالإطار اللاهوتي، مقدمًا سلسلة من الجدليات الفلسفية وحاذفًا كل ما يمت إلى العلاقة الدينية والشخصية بين الله والإنسان باعتباره غير مناسب.
إن "السبل الخمس" التي تقدم السبيل العقلي إلى إدراك وجود الله، والتي يقدمها القديس توما في الخلاصة اللاهوتية ترتبط بكامل إطار الخلاصة التي هي مؤلف لاهوتي كما يشير العنوان. ولذا فإن اعتبارها بمعزل عن هذا الإطار اللاهوتي هو خطأ تفسيري. لذا يعبر باكلي عن حيرته أمام قول توما في القسم الثالث من الخلاصة بأن هناك أمام البشر سبيل واحد إلى الحقيقة ، وأن هذا السبيل هو شخص وواقع يسوع (راجع المقدمة إلى القسم الثالث من الخلاصة اللاهوتية)، بينما لا يأتي البتة على ذكر يسوع بين السبل الخمس للوصول إلى الله في القسم الأول من الخلاصة عينها. ويعتبر أن لهذا الأمر دلالة رمزية تشير إلى الفصل الذي سيضحي طلاقًا في العصور اللاحقة. من الممكن تبرير موقف توما في الخلاصة باعتبار هذا المؤلف ككل كمسيرة واحدة تبحث فيها النفس عن الله، وبالتالي يمكن فهم كيف أن العناصر فيها تفسر بعضها. ولكن ليسيوس وسواه لم يقوموا بهذه القراءة المتكاملة للخلاصة اللاهوتية، بل تم اعتبار الأقسام بشكل منفصل ومستقل.
إن العزل للعنصر الديني الذي قام به ليسيوس كان يعني فصل كل الظواهر والمعلومات الدينية باعتبارها خالية من قدرة الإقناع المنطقي. يقول باكلي في هذا الصدد: "لم يكن للخبرات وللتقاليد الدينية أي أهمية في ما يتعلق بالتصريحات الجوهرية" بل "إن كل ما كان دينيًا بالمعنى الحصري، إن من ناحية الخبرة الدينية، أو من ناحية التقليد أو الشهادة الدينية، كان يوضع جانبًا بانتظار أن يتم تدعيمه بركيزة منطقية" (راجع م.ج. باكلي، "الإلحاد"، في ر. لاتوريل – ر. فيزيكيلاّ، قاموس اللاهوت الأساسي، أسيزي 1990، 87).
لقد احتلت هذه الطريقة في العزل الديني قسمًا كبيرًا في استراتيجيات العديد من تيارات لاهوت الدفاع عن المسيحية (apologetica) بين المجمع التريدنتيني والمجمع الفاتيكاني الثاني بوجه الإجمال. إنطلاقًا من هذه المنهجية انتقلت مسألة الله من حضن اللاهوت إلى حضن الفلسفة، وما كان من كبار الفلاسفة والميتافيزيقيين في ذلك الزمان إلا أن قبلوا هذه المقاربة التي اعتنقها اللاهوتيون في المقام الأول.
ولكن ما الغاية من هذا التقصي التاريخي؟
إن هذه النظرة التاريخية تساعدنا بشكل لا عشوائي وعاطفي، بل علمي ومدقق إلى فهم الفقر الروحي الذي وقعت فيه بعض تيارات اللاهوت عندما لم يعد الله يعتبر كالإله الحي، بل كمسألة فلسفية وفكرية بحت. يفيدنا هذا البحث في إدراك كنه جاذبية الإله المسيحي. فما يميز إلهنا ليس وجوده (esistenza) بل غيريته ووجوده لأجل الآخر (pro-esistenza)، هو الكائن في ذاته، والذي في فعل حب أزلي يخلي ذاته ليجعلنا شركاء في الطبيعة الإلهية. لقد شاء الله أن يكون وجوده وجودًا حميميًا، وجود قرب وألفة، وجود عمانوئيل، الله معنا. وإذا ما عزلنا عنصر الجاذبية هذا، فلا بد أن يفقد الناس الاهتمام واللهف نحو إله بارد وبعيد، بعيد عنا وبعيد عن المفهوم الكتابي والمسيحي الحق لله، الذي – بحسب المجمع الفاتيكاني الثاني – عبر تجسد الكلمة اتحد بشكل ما بكل إنسان (راجع الدستور المجمعي، فرح ورجاء، 22). ولذا لا يخطئ باكلي في تشخصيه عندما يربط بين العرض العقلاني البحت للمسحية وبين نشأة الإلحاد المعاصر.