المونسنيور عبده واكد
الأشرفية، الأحد 26 أبريل 2009 (Zenit.org). – في الجمعة العظيمة مات من هو الحياة، صُرع من هو الحقّ، على الهويّة قتلوه بعد أن عذّبوه. أوقفوه على حاجز من قلوب حجريّة وسألوه من أنت؟ بأيّ سلطان تغفر الخطايا وتنقض السبت؟ هل أنت ابن الله حقّاً؟ هوّيتك؟ كشف لهم أوراقه. قال لهم: “أنا هو الطريق، والحقّ والحياة. أنا نور العالم، أنا والله واحد، من رآني رأى الآب. أنا سيّد السبت الذي جُعل للإنسان، وليس الإنسان للسبت”. صرخوا: “أنت تجدّف! أنت كافر!”.
نعم أنا كافر لأنّي المحبّة والمحبّة كافرة. تكفر بالتحجّر البغيض، بالسّبت الذي يستعبد الإنسان، تكفر بالكذب والرّياء. تكفر بالظّلم والظلمة والعنف والتسلّط. تكفر بحواجز الطبقيّة والعرق والدّين. تكفر بآلهة المال والجنس وكلّ أصنام الأنانيّة، تكفر بكلّ إله على صورتكم ومثالكم تصنعون.
كذا أظهر لهم هوّيته. أزعجتهم فأحرجتهم، هزّت ضمائرهم وقضّت مضاجعهم بعد أن وضعت شرائعهم وتصرّفاتهم في غربال الحقيقة. سقطوا في الإمتحان، فأسقطوه من حساباتهم وصرخوا: “اقتلوه، اصلبوه”. قتلوه ودحرجوا على قبره حجراً كبيراً وأحكموا الحراسة عليه. فكان أوّل شهيد يُقتل على الهويّة بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى. وأُسدل الستار.
صُعق التلاميذ، ذُهلوا. أهكذا تتحطّم آمالهم؟ أهكذا ينتهي كلّ شيء في جثّة هامدة يبتلعها التراب، يتآكلها الزمان ويطويها النسيان؟! لا أيُّها التلاميذ، لماذا تبحثون عن الحيّ بين الأموات؟ ليس هنا بل قام. قام، حقّاً قام. قام من هو الطريق والحقّ والحياة، لأنّ الطريق لا يُغلق والحقّ لا ُيبطل والحياة لا تموت. قام لأنّه المحبّة، والمحبّة لا تُدفن في الأرض وإن دُفنت إلى حين، فلكي تُخصب المسكونة كلّها حبّاً وسلاماً، وتعجنها بخمير الخلاص وترفع الإنسانيّة جمعاء إلى باريها: “وأنا متى ارتفعت جذبتُ إليّ كل أحد”. قام لأنّه النّور والنّور لا تغشاه الظلمات. قام. حقّاً قام، وبقيامته مات الموت وأصبح المسيح فصحنا أيّ عبورنا إلى أبينا السّماوي، إلى ملء الحياة، وعبورنا إلى أخينا الإنسان، كلّ إنسان. قام بعد أن نزل إلى الجحيم وعانق ظُلمة خطايانا فحَملها ثمّ نهض بها ظافراً مظفّراً، مطهّراً إيّانا بدمه، مشرّعاً لنا باب الخلاص. قام، وبقيامته صالحنا مع الآب ومع بعضنا بعض وأعادنا خليقة جديدة، أبناء لله وورثةً لملكوت نعيشه منذ الآن، شهوداً للرجاء الذي يفجّر المستحيلات ويحوّلها إلى ممكنات، بعد أن ينزع فتيل الخوف من ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا. لأنّ من مات وقام، بيده الماضي والحاضر والمستقبل. هو سيّد التاريخ وحامل الزّمن. سيّد تاريخي، حامل زمني، ربّان سفينتي، حامل كنيستي، حافظ عائلتي وحاضن وطني.
قيامته تهمّني جدّاً أنا الإنسان، حيثُما كنتُ وأيّاً كنت وفي أيّ ظرف وُجدت. قيامته تطول حياتي كلّها وتعطيها معنى عظيماً وأبعاداً جديدة، وتطعّمها بالغلبة عل قوى الشرّ والخطيئة. قام مخلّصي، وأنا معه أقوم كلّما سقطت، مسنوداً بالنّعم الإلهية المتدّفقة من صليبه الظافر فأردّد مع بولس الرسول: “الشكر لله الذي أعطانا الغلبة برّبنا يسوع المسيح”. يسوع المسيح قام يعني أن آلامي باتت تحمل معنىً خلاصياً على ضوء آلامه الخلاصية وأنّ موتي وموت كلّ إنسان عزيز على قلبي ليأخذ أبعاد القيامة. فاتحدى الموت صارخاً مع بولس الرّسول: “أين شوكتك يا موت ؟ أين غلبتك يا جحيم؟”. المسيح قام، يعني أنّ جهادي وأتعابي، وطموحي وآمالي، لا تنتهي كلّها في حفنة تراب، بل المسيح حيّ الأحياء يُكسبها ويكسبُ أصغر أعمالي وكلّ لحظة من لحظات حياتي زخماً روحيّاً وبُعداً خلاصّياً له ترجيعه في قلب الآب، غاية غاياتي. المسيح قام، يعني أن أمره فوق كلّ مؤامرة، وحكمَه فوق كلّ الأحكام والكلمة الأخيرة تبقى له، للحياة لا للموت، للمحبّة لا للحقد، للمصالحة والغفران لا للعداوة والنّكران. قام مخلّصنا وفادينا! هذا عيدُ الأعياد وبدونه لا معنى لعيد.
ربّي وإلهي، أنر عيوننا وقلوبنا بنور قيامتك ليزكّي فينا الرّجاء ويبعثُ في قلوبنا الجريحة الأمل، فنعلم يقيناً بأنّ آلامنا مهما قسَت وطالت، لن تطفئ شعلة الرّجاء لأنّ بعد الجمعة العظيمة أحد القيامة. “أيُّها الإخوة، إفرحوا بالرّب كلّ حين وأقول أيضاً افرحوا!” نعم، سنفرح أيّها الرّب بقيامتك لأنّها قيامتنا، بها نستقوي على قوى الشرّ والخطيئة وقوّات الجحيم. يا من قلتَ لنا: “ستكونون في العالم بضيق، ولكن تقوّوا أنا غلبتُ العالم”. إلى متى قيامة لبنان الوطن وغَلبته على “الوطنجيّين” و”المصلحجيّين”، هذا اللبنان الأكبر من وطن، لبنان الرسالة. إلى متى يا ربّ؟ إلى متى غلبة الفجر الطالع من الليل، والحياة الطالعة من الموت؟ الى متى يا ربّ؟….