بقلم روبير شعيب

روما، الثلاثاء 11 مايو 2010 (Zenit.org). – يحض الرسول بولس أهل روما والمسيحيين بشكل عام لكي يقدموا أجسادهم "ذبيحة حية، مقدسة ومقبولة لدى الله"، معتبرًا أن هذه هي عبادتهم الروحية (راجع روم 12، 1). بالعودة إلى النص الأصلي نجد أن تعبير "عبادة روحية" لا يترجم بالتمام الأصل اليوناني الذي يتضمن معانٍ أكبر. فكلمة " ton logikon latreían" تعني أكثر بكثير من البعد الروحي، ومترجمو الكتاب المقدس في اللغات المختلفة يجدون صعوبة في نقل هذه العبارة التي تعني في الوقت عينه: عبادة عقلانية، لائقة، منطقية، روحية، جوهرية... هي بالتالي عبادة متكاملة محسوسة ومتسامية تشمل كيان الإنسان بأسره وتسمو به.

إلا أن هذه الآية تتضمن مفارقة كبيرة أشار إليها البابا بندكتس السادس عشر خلال إحدى تعاليم الأربعاء في معرض السنة البولسية. فقد لفت البابا انتباه السامعين إلى تعبير "ذبيحة حية". وقد قال الباب حينها معلقًا: "ينجم عن هذه الكلمات نوع من تناقض ظاهري: فبينما تتطلب الذبيحة عادة موت الضحية، يتحدث بولس عن الذبيحة في علاقتها مع حياة المسيحي. يأخذ تعبير "أن تقدموا اجسادكم"، نظرًا لمفهوم الذبيحة الذي يليه، معالمَ طقسية هي "التضحية، والتقدمة". وبالتالي فالحض على "تقدمة الأجساد" تشير إلى الشخص بكامله" (راجع بندكتس السادس عشر، تعليم الأربعاء 7 يناير 2009).

مفهوم الذبيحة في المسيحية يختلف عن مفهومها الاعتيادي في رموز وطقوس الأديان الأخرى، وذلك في نقطتين أساسيتين: الأولى هي أن الذبيحة هي غير دموية، وفضل المذبوح أن يبقى، نوعًا ما، حيًا بعد "الذبح"! فالذبيحة السميا هي الحمل المذبوح منذ بدء الدهور والحي إلى الأبد. المذبوح المقبول لدى الله لا يموت بل يحيا في الله ومن الله. النقطة الثانية هي أن الذبيحة هي مقدم الذبيحة بالذات. فالمسيح يدخل قدس الأقداس بدمه هو، أي بحياته هو مقدمًا ذاته، لا دم الخراف. والمسيحي، كما يدعو بولس قراءه يجب أن يقتدي بالمسيح في تقدمة ذاته ذبيحة روحية، ذبيحة كاملة متكاملة.

يشكل هذا النوع من "الذبائح" بعدًا من أبعاد العيش الكهنوتي للشعب المسيحي. يقدم المسيحي ذاته إلى المسيح، معه ومثله (راجع روم 6، 13) وتشمل هذه التقدمة تقديم المجد لله في الجسد (راجع 1 كور 6، 20). هذا الكهنوت اليومي، للأيام العادية وليس فقط للأيام الاحتفالية، هو واقع محسوس يحول معنى الذبيحة فيجعلها واقعًا حيًا معاشًا يوميًا.

يشكل الربط بين "الجسد" والعبادة الروحية المتكاملة تجاوزًا لما قد ينجم عن روحنة الذبائح والتأويل الروحي للعبادة الذي قد يُساء تفسيره فتضحي العبادة مجرد شعائر أخلاقية فارغة. العبادة الروحية في الجسد هي جمع بين البعد الروحي والبعد العملي للوجود، هو عبادة بالروح والحق، تلك العبادة التي يريدها الله (راجع يو 4، 24).

هذه العبادة بالروح والحق هي الخدمة الكهنوتية التي يدعى جميع المعمدين في المسيح إلى عيشها. فكل مسيحي هو، في المسيح حبرِ إيماننا ومكمله، كاهنٌ يقدم ذبيحة وجوده الحية لمجد الله الآب باتحاد مع تقدمة يسوع المسيح. والمسيحيون جميعًا هم "حجارة حية"، يبنون بيتًا روحيا ويكونون "جماعة كهنوتية مقدسة تقرّب ذبائح روحية يقبلها الله عن يد يسوع المسيح" (راجع 1 بط 2، 5). فكاتب رسالة بطرس الأولى يخاطب المسيحيين قائلاً: "أنتم ذرية مختارة وجماعة الملك الكهنوتية وأمة مقدسة وشعب اقتناه الله للإشادة بآيات الذي دعاكم من الظلمات إلى نوره العجيب" (1 بط 2، 9).

انطلاقًا من هذه الفكرة الكتابية، توسع المجمع الفاتيكاني الثاني في الحديث عن كهنوت العلمانيين (مميزًا إياه عن كهنوت الخدمة الذي يقوم به الأساقفة ويشارك معهم في الخدمة الكهنة). يصرح المجمع في هذا الإطار: "إن يسوع المسيح، الكاهن السامي والأزلي، إذ أراد أن تدوم شهادته وخدمته بواسطة العَلمانيين أحياهم بروحه ودفعهم دفعاً متواصلاً ليُحققوا كلَّ عمل خير وكامل. فالذين يضمُّهم ضمّاً حميماً إلى حياته ورسالته، يمنحهم أيضاً قِسماً من وظيفته الكهنوتية لممارسةِ العبادةِ الروحية لمجد الله وخلاص البشر. لهذا فالعَلمانيون، بما أنَّهم مُكرسون للمسيح ومُسِحوا بالروح القدس، قد قبلوا الدعوةَ العجيبة والوسائل كي يُثمروا ثمارَ الروحِ بوفرةٍ وإستمرار. وعليه إذا كمَّلوا في الروح كلَّ أعمالهم وصلواتهم ومشاريعهم الرسولية، وحياتهم الزوجية والعائلية، وأشغالهم اليومية والراحة الروحية والجسدية وحتى صعوبات حياتهم إذا ما إحتُملت بصبرٍ، كل هذا يغدو "قرابين روحية، مرضية لله بيسوع المسيح” (1 بط 2، 5)، هذه القرابين التي تُقدم للآب بمنتهى التقوى في الإحتفال بالإفخارستيا مع تقدمة جسدِ الربِّ. وهكذا يُكرِّسُ العَلمانيون العالمَ كلَّه، إذ يعبدون الله في كلِّ مكانٍ ويعملون في القداسة" (نور الأمم، 34).

تعليقًا على هذا النص المجمعي يوضح يوحنا بولس الثاني أنه بحسب تفكير المجمع، لا يكتفي العلمانيون بالمشاركة في خدمة المسيح الكهنوتية، وحسب، بل يتابع المسيح من خلالهم عيش كهنوته في حياتهم" (راجع يوحنا بولس الثاني، مقابلة عامة 15 ديسمبر 1993). بهذا الشكل يضحي العيش على ضوء إرادة الله قربانًا مقدسًا مرضيًا لدى الله.

من هذا المنطلق نود أن نستعرض القراءة الكهنوتية التي يقوم به الفيلسوف المسيحي موريس بلوندل لحياته، ودور "فكرة الكهنوت" في وجوده ودعوته العلمانية

(يتبع)