تورينو، الاثنين 3 مايو 2010 (zenit.org). – ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها البابا بندكتس السادس عشر صباح الأحد، خلال الاحتفال بالقداس في ساحة القديس كارلو في تورينو.

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء!

يسعدني ان أكون معكم في هذا العيد وأن أحتفل بالافخارستيا. أوجه بتحية من كلّ من الحاضرين، وبخاصة من راعي أبرشيتكم، الكاردينال سيفيرينو بوليتو وأشكره على كلماته الحارة التي وجهها لي باسمكم. أحيي رؤساء الأساقفة الحاضرين، والكهنة والرهبان والراهبات، وممثلي الجمعيات والحركات الكنسية. أتوجه بتحية من عمدة المدينة الدكتور سيرجة كيامبارينو وأشكره على كلمته، وممثل الحكومة، والسلطات المدنية والعسكرية، وأتوجه بشكر خاص من جميع الذي أسهموا في التحضير لزيارتي الرعوية هذه. أتوجه بتفكيري أيضاً الى جميع الذين لم يستطيعوا الحضور معنا وبخاصة المرضى والوحيدين والذين يعانون من الصعوبات. أوكل الى الرب مدينة تورينو وجميع سكانها خلال هذا الاحتفال الافخارستي الذي – وككل أحد – يدعونا الى الاشتراك في وليمة كلمة الحق وخبز الحياة الأبدية.

نحن في الزمن الفصحي الذي هو زمن تمجيد يسوع. الإنجيل الذي سمعناه للتو يذكرنا بهذا التمجيد الذي تحقق بواسطة الآلام. في السر الفصحي ترتبط الآلام بالتمجيد ارتباطاً وثيقاً ويشكلان وحدة متكاملة. يقول يسوع: "الآن تمجد ابن الانسان والله تمجد فيه" (يو 13: 31)، وهو يقول ذلك بينما يخرج يهوذا من العلية لينفذ مخطط الخيانة الذي سيؤدي الى موت المعلم: في ذلك الوقت بالذات يبدأ تمجيد يسوع. الإنجيلي يوحنا يتكلم عن ذلك بوضوح: في الواقع، هو لا يقول بأن يسوع تمجد بعد آلامه، بواسطة القيامة، وإنما يُظهر أن التمجيد بدأ بالتحديد مع الآلام. في الآلام، يسوع يظهر مجده، الذي هو مجد المحبة التي تعطي ذاتها بالكامل. لقد أحب الآب، وعمل بمشيئته حتى النهاية، بعطاء ذات كامل؛ أحب البشرية واهباً ذاته لأجلنا. وهكذا فهو يتمجد في آلامه، ويتمجد الله فيه. ولكن الآلام – كعلامة محبته العميقة – هي فقط البداية. ولذلك يقول يسوع بأن تمجيده هو أيضاً مستقبلي (راجع آية 32). والرب، في الوقت الذي فيه يعلن ذهابه عن هذا العالم (راجع آية 33)، يترك وصية لتلاميذه ليفهموا بطريقة جديدة حضوره بينهم: "أعطيكم وصية جديدة: أحبوا بعضكم بعضاً. كما أحببتكم أنا، أحبوا بعضكم بعضاً" (آية 34). إذا أحببنا بعضنا بعضاً، يستمر يسوع في حضوره بيننا، ليتمجد في العالم.

يسوع يتحدث عن "وصية جديدة". ولكن ما هو الجديد؟ كان الله في العهد القديم قد أعطى وصية المحبة؛ ولكن، الآن، أصبحت هذه المحبة جديدة لأن يسوع أضاف عليها شيئاً بالغ الأهمية: "كما أنا أحببتكم، أحبوا بعضكم بعضاً". الجديد هو هذه "المحبة كما أحب يسوع". محبته تسبق كل محبتنا، ومحبتنا ترجع لمحبته وتنخرط فيها وتتحقق فيها. لم يقدم العهد القديم أي مثال للمحبة، بل تحدث فقط عن مبدأ المحبة. أما يسوع فقد أعطانا ذاته كمثال وكمصدر محبة. إنها محبة من دون حدود، شاملة، قادرة على تحويل المناسبات السلبية وجميع العقبات الى مناسبات للنمو في المحبة. ونحن نرى في قديسي هذه المدينة تجسيد هذه المحبة، انطلاقاً من مصدر محبة يسوع.

خلال القرون الماضية عرفت الكنيسة في تورينو تقليداً غنياً بالقداسة وبالخدمة المجانية للإخوة – كما ذكّرنا الكاردينال رئيس الأساقفة والعمدة – بفضل عمل وحماس كهنة ورهبان وراهبات ومؤمنين علمانيين. لكلمات يسوع إذن، وقع خاص على كنيسة تورينو هذه، السخية والفعالة، بدءاً من كهنتها. بإعطائنا الوصية الجديدة، يطلب يسوع منا أن نعيش محبته ذاتها، ومن محبته ذاتها، التي هي العلامة الصادقة والبليغة والفعالة لتبشير العالم بحلول ملكوت الله.

من الواضح أننا بقوانا نظل ضعفاء ومحدودين. نعاني دائماً من مقاومة لهذه المحبة وفي حياتنا الكثير من الصعوبات التي تثير الانقسامات والأحقاد. ولكن الرب وعدنا بأن يكون حاضراً في حياتنا، وأن يجعلنا قادرين أهلاً لهذه المحبة السخية والتامة، القادرة على التغلب على كل العقبات، وحتى تلك الموجودة في قلوبنا. إذا كنا متحدين بالمسيح، يمكننا أن نحب بهذه الطريقة. محبة الآخرين كما أحبنا يسوع ممكنة فقط بفضل القوة التي نكتسبها في علاقتنا معه، وبخاصة في الافخارستيا، التي من خلالها تصبح تضحية المحبة التي تولد المحبة حاضرة بطريقة حسية: هذا هو الجديد في العالم، وقوة تمجيد الله المستمر، الله الذي يتمجد في استمرارية محبة يسوع في محبتنا.

أود إذن، أن أقول كلمة تشجيع بخاصة للكهنة والشمامسة في هذه الكنيسة، الذين يقومون بعملهم الرعوي بسخاء، وللرهبان والراهبات. أن نكون فعلة في كرم الرب هو عمل متعب في بعض الأحيان؛ الأعمال تتضاعف، والطلبات كثيرة، والمشاكل لا تنقص: استقوا من علاقة المحبة مع الله في الصلاة، القوة لتحملوا بشرى الخلاص النبوية؛ أعيدوا تركيز حياتكم على أساس الإنجيل؛ نمّوا بعداً حقيقياً للشراكة والأخوة في الخدمة الكهنوتية، في جماعاتكم، في علاقتكم مع شعب الله؛ اشهدوا في الخدمة لعظمة المحبة النازلة من علُ، من الرب الحاضر بيننا.

القراءة الأولى التي سمعناها، تعرض لنا طريقة مميزة في تمجيد يسوع: الرسالة وثمارها. في ختام رحلتهما الرسولية الأولى، يعود بولس وبرنابا الى المدن التي زاراها ليشددا عزائم التلاميذ، ويحثاهم على الثبات في الإيمان: "علينا أن نجتاز مضايق كثيرة لندخل ملكوت الله" (أع 14: 22). الحياة المسيحية، أيها الإخوة والأخوات ال أعزاء، ليست سهلة؛ أعرف أن هناك صعوبات في تورينو أيضاً، وهناك مشاكل واهتمامات: أفكر بنوع خاص بالذين يعيشون في ظروف غير مستقرة، بسبب نقص العمل والقلق بشأن المستقبل، والمعاناة الجسدية والأخلاقية؛ أفكر بالعائلات، بالشباب، بالطاعنين في السن الذي يعيشون في وحدة، بالمهمشين، بالمهاجرين.

نعم، الحياة تحلمنا على مواجهة الكثير من الصعاب والمشاكل، ولكن الضمانة التي تأتينا من الإيمان، الضمانة بأننا لسنا بمفردنا، بأن الله يحب كل واحد من دون أي تمييز وهو قريب بمحبته من الجميع، هذه المحبة التي تجعل من الممكن مواجهة وعيش وتخطي عبء المشاكل اليومية. محبة المسيح القائم الشاملة، هي التي دفعت بالرسل الى الخروج من ذواتهم الى خدمة الآخرين دون تحفظ، بشجاعة وفرح وصفاء. القائم يملك قوة محبة تتخطى كل الحدود، ولا تتوقف أمام أي عائق. وعلى الجماعة المسيحية أن تكون أداة حسية لمحبة الله هذه. أحث العائلات على عيش البعد المسيحي للمحبة في الأعمال اليومية البسيطة، في العلاقات العائلية متخطين الانقسامات وسوء الفهم، في تنمية الإيمان الذي يعزز الشراكة. لا تنقصن شهادة المحبة التي يكلمنا عنها الإنجيل، في عالم الجامعة والثقافة الغني والمتنوع، في القدرة على الإصغاء والحوار المتواضع في البحث عن الحقيقة، متأكدين من أن الحقيقة عينها هي التي تجذبنا. أود أيضاً أن أشجع جهود المدعوين للقيام بالعمل في التعاون في سبيل الخير العام وفي سبيل أن تكون المدينة أكثر إنسانية، وفي هذا علامة أن الفكر المسيحي في الإنسان ليس ضد حريته، وإنما لبلوغ الملء الذي يتحقق فقط في "حضارة المحبة". للجميع، وبخاصة للشباب أقول: لا تفقدوا أبداً الرجاء، ذلك الآتي من المسيح القائم، من انتصار الله على الخطيئة والبغض والموت.

القراءة الثانية تظهر لنا غاية قيامة يسوع: أورشليم الجديدة، المدينة المقدسة النازلة من السماء، من الله، كعروس مزينة لعريسها (راجع رؤ 21: 2). ذاك الذي صُلب، الذي شاركنا الالم، كما يذكرنا الكفن المقدس، ذاك الذي قام ويريد أن يجمعنا كلنا بمحبته. إنه رجاء، "قوي"، صلب، لأنه كما يقول سفر الرؤيا: "ويمسح الله كل دمعة من عيونهم ولا يكون بعد حزن ولا وجع، لأن الأشياء الماضية قد زالت" (21/4).

ألا ينقل لنا الكفن المقدس الرسالة عينها؟ فيه نرى، كما في مرآة، آلامنا في آلام المسيح: "آلام المسيح، آلام البشر". ولهذا السبب بالذات، الكفن هو علامة رجاء: المسيح واجه الصليب ليضع حداً للشر؛ ليجعلنا نعيش في فصحه استباقاً لتلك اللحظة التي فيها نحن أيضاً، تُمسح كل دمعة من عيوننا ولن يكون بعد موت ولا حزن ولا وجع. هذا المقطع من سفر الرؤيا ينتهي بالتأكيد على أن : "الجالس على العرش يقول: "هاأنا أجعل جديدة كل الأشياء" (21: 5). الشيء الأول الجديد الذي حققه الله هو قيامة يسوع، تمجيده السماوي. إنها فاتحة سلسلة من "الأشياء الجديدة"، التي نشارك نحن أيضاً فيها. "الأشياء الجديدة" هي عالم يعمه الفرح، حيث لا ألم ولا قهر ولا استياء ولا بغض، بل وحدها محبة الله التي تغير كل شيء.

يا كنيسة تورينو العزيزة، أتيت بينكم لأثبتكم في الإيمان. أود أن أشجعكم، بقوة وعاطفة، للثبات في ذلك الإيمان الذي نلتموه، والذي يعطي معنى للحياة، ويعطي القوة للمحبة. لا تفقدوا أبداً نور الرجاء في المسيح القائم، القادر على تغيير الواقع وتجديد كل الأشياء. عيشوا محبة الله في المدينة، في شوارعها، في الجماعة، في العائلات، بطريقة بسيطة وحسية: "كما أحببتكم أنا، أحبوا بعضكم بعضاً".

آمين

نقله الى العربية طوني عساف – وكالة زينيت العالمية