عظة بندكتس السادس عشر بمناسبة عيد العنصرة المجيد

Share this Entry

حاضرة الفاتيكان، الاثنين 24 مايو 2010 (Zenit.org) – ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها البابا بندكتس السادس عشر خلال قداس عيد العنصرة الذي ترأسه في البازيليك الفاتيكانية.

***

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

في عيد العنصرة، نحن مدعوون إلى المجاهرة بإيماننا بحضور الروح القدس وعمله، وإلى ابتهال حلوله علينا وعلى الكنيسة والعالم أجمع. لذلك، وبقوة استثنائية، فلنجعل ابتهال الكنيسة Veni, Sancte Spiritus (تعال أيها الروح القدس) خاصتنا. إنه ابتهال بسيط وفوري وإنما عميق أيضاً ينبع أولاً من قلب المسيح. ففي الواقع أن الروح هو الهبة التي طلبها يسوع ويطلبها دوماً من الآب لأحبائه، الهبة الأولى والأساسية التي نالها لنا بقيامته وصعوده إلى السماء.

عن صلاة المسيح هذه، يحدثنا المقطع الإنجيلي الذي يتمحور حول العشاء الأخير. فيقول الرب يسوع لتلاميذه: “إن كنتم تحبونني فاعملوا بوصاياي. وسوف أطلب من الآب أن يعطيكم معيناً آخر يبقى معكم إلى الأبد” (يو 14: 15، 16). هنا ينكشف لنا قلب يسوع المصلي، قلبه البنوي والأخوي. وتبلغ هذه الصلاة ذروتها وتحققها على الصليب حيث يشكل ابتهال المسيح وحدة مع هبة ذاته التامة، وتتحول بالتالي صلاته إلى ختم بذل ذاته بالكامل محبة بالآب وبالبشرية: فيلتقي ابتهال الروح وهبته، ويتداخلان ويتحولان إلى واقع واحد. “وسوف أطلب من الآب أن يعطيكم معيناً آخر يبقى معكم إلى الأبد”. إن صلاة يسوع – في العشاء الأخير وعلى الصليب – هي في الحقيقة صلاة تستمر أيضاً في السماء حيث يجلس المسيح عن يمين الآب. فيسوع يعيش دوماً كهنوت التشفع لصالح شعب الله والبشرية، ولذلك يصلي لأجلنا جميعاً سائلاً الآب أن يهبنا الروح القدس.

إن قصة العنصرة في كتاب أعمال الرسل – التي استمعنا إليها في القراءة الأولى (أع 2: 1، 11) – تمثل “المسار الجديد” لعمل الله الذي بدأ بقيامة المسيح، العمل الذي يشمل الإنسان والتاريخ والكون. بطاقة كبيرة، ينفخ ابن الله الذي مات وقام وعاد إلى الآب، النفس الإلهي أي الروح القدس على البشرية. وماذا يُحدث هذا التواصل الإلهي الذاتي الجديد والقوي؟ حيثما توجد انقسامات وخلافات، يخلق الوحدة والتفاهم. يطلق الروح عملية إعادة توحيد أجزاء العائلة البشرية المنقسمة والمشتتة؛ فالأشخاص الذين غالباً ما يتحولون إلى مجرد أفراد متنافسين أو متصارعين، ينفتحون على تجربة الشركة عندما يلمسهم روح المسيح. هذا ما يؤثر بهم حتى أنه يجعلهم جسداً جديداً، رعية جديدة هي الكنيسة. هذا هو تأثير العمل الإلهي: الوحدة؛ وبالتالي فإن الوحدة هي بطاقة عمل الكنيسة على مر تاريخها الشامل. منذ البداية، وابتداءً من يوم العنصرة، تتكلم الكنيسة جميع اللغات. تسبق الكنيسة الجامعة الكنائس الخاصة، ويجب أن تتطابق الأخيرة مع السابقة وفقاً لمعيار وحدة وشمولية. ولا تبقى الكنيسة أبداً أسيرة ضمن حدود سياسية وعرقية وثقافية؛ ولا يمكن الخلط بينها وبين الدول أو اتحادات الدول لأن وحدتها من نوع آخر تتطلع إلى السمو فوق كل الحدود البشرية.

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، من هنا ينشأ معيار تمييز عملي للحياة المسيحية: ففي انغلاق شخص أو فريق على طريقة تفكيره وعمله الخاصة، إشارة إلى ابتعاده عن الروح القدس. ينبغي على درب المسيحيين والكنائس الأخرى أن تقارن نفسها دوماً بدرب الكنيسة الواحدة والكاثوليكية وتنسجم معها. هذا لا يعني أن الوحدة التي يخلقها الروح القدس تشكل نوعاً من التجانس. على العكس، هذا يمثل أكثر نموذج بابل أي فرض ثقافة الوحدة المسماة بـ “التقنية”. في الوقع، يقول لنا الكتاب المقدس أن جميع الأفراد في بابل كانوا ينطقون باللغة عينها (تك 11: 1، 9). في المقابل، وفي عيد العنصرة، ينطق الرسل بلغات مختلفة بحيث يفهم الجميع الرسالة بلغته الخاصة. فتتجلى وحدة الروح في تعددية الفهم. إن الكنيسة بطبيعتها واحدة ومتعددة، معدة للعيش بين جميع الأمم والشعوب، وفي البيئات الاجتماعية الأكثر تعددية. وهي تحقق دعوتها لأن تكون أداة وحدة للجنس البشري (نور الأمم Lumen Gentium،1) فقط باستقلالها عن كل دولة وكل ثقافة خاصة. على الدوام وفي كل مكان، ينبغي على الكنيسة أن تكون كاثوليكية وجامعة، دار الجميع التي يجد فيها كل فرد مكاناً له.

كذلك تقدم لنا الرواية في أعمال الرسل دلالة حسية أخرى. يتم التعبير عن شمولية الكنيسة في قائمة الشعوب بحسب التقليد القديم: “فبعضنا فرتيون، وماديون، وعيلاميون…”. يلاحظ المرء أن القديس لوقا يتخطى الرقم 12 الذي يعبر دوماً عن الشمولية، وينظر إلى ما هو أبعد من آفاق آسيا وشمال غرب إفريقيا مضيفاً ثلاثة عناصر أخرى: “الرومانيين” أي عالم الغرب؛ “اليهود والمتهودين” الذين يشملون بطريقة جديدة الوحدة بين إسرائيل والعالم؛ و”الكريتيين والعرب” الذين يمثلون الغرب والشرق، الجزر والبر. ويؤكد انفتاح الأفق جِدة المسيح في المجال البشري، في تاريخ الأمم: الروح القدس يشرك الأفراد والشعوب، ويتخطى من خلالهم الأسوار والحواجز.

في عيد العنصرة، يظهر الروح القدس ذاته على شكل نار حلت شعلتها على التلاميذ المجتمعين فالتهبت فيهم ومنحتهم حماسة الله الجديدة. هكذا تحقق ما قاله يسوع مسبقاً: “جئت لألقي على الأرض ناراً، فلكم أود أن تكون قد اشتعلت!” (لو 12، 49). مع المؤمنين من مختلف الجماعات، حمل الرسل هذه الشعلة الإلهية إلى أقصى أقطار المعمورة؛ هكذا فتحوا درباً للبشرية، درباً نيرة، وعملوا مع الله الذي أراد تجديد وجه الأرض بناره. كم تختلف هذه النار عن نار الحروب والقنابل
! كم تختلف نار المسيح التي تنشرها الكنيسة عن النار التي يشعلها طغاة كل الأزمنة والقرن الماضي أيضاً الذين يخلفون وراءهم مسكونة محترقة! إن نار الله، نار الروح القدس، هي نار العليقة التي تتوقد من دون أن تحترق (خر 3، 2). إنه لهيب يشتعل ولا يدمر، ويكشف باشتعاله أفضل وأصدق جزء في الإنسان، مثلما يكشف في الانصهار جوهره، دعوته إلى الحقيقة والمحبة.

في إحدى عظاته حول إرميا، ينقل أوريجانوس أحد آباء الكنيسة قولاً منسوباً ليسوع، غير وارد في الكتاب المقدس لكنه قد يكون حقيقياً: “من كان قريباً مني، كان قريباً من النار (العظات عن إرميا، L. I [III] (. في المسيح، يوجد كمال الله المشبه في الكتاب المقدس بالنار. لقد لاحظنا أن شعلة الإيمان المقدس تلتهب لكنها لا تدمر. بيد أنها تحدث تغييراً، ويجب أن تبدد شيئاً ما في الإنسان، الفساد الذي يبدده ويعوق علاقاته مع الله والقريب.

مع ذلك، فإن تأثير هذه النار الإلهية يخيفنا، ونحن نخاف من الاحتراق فنفضل البقاء من دون تغيير. ذلك لأن حياتنا كثيراً ما تتكون وفقاً لمنطق الامتلاك لا لمنطق بذل الذات. كثيرون يؤمنون بالله ويحبون شخص يسوع المسيح، لكنهم يتراجعون ويخافون من متطلبات الإيمان عندما يطلب منهم أن يخسروا شيئاً من ذواتهم. هناك خوف من التخلي عن أمور سارة نحن متعلقون بها، خوف من أن يحرمنا اتباع المسيح من الحرية وبعض التجارب وجزء من أنفسنا. فمن جهة، نريد أن نكون مع يسوع ونتبعه، إلا أننا من جهة أخرى نخاف من التبعات التي يشملها الأمر.

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، ينبغي علينا دوماً أن نصغي إلى الرب يسوع يقول ما كرره مراراً لأحبائه: “لا تخافوا”. على غرار سمعان بطرس والآخرين، يجب أن نسمح لحضوره ونعمته بتبديل قلبنا المعرض دوماً للضعف البشري. ينبغي علينا أن ندرك أن خسارة شيء ما أي خسارة أنفسنا من أجل الله الحق، إله المحبة والحياة، هي ربح أنفسنا وإيجاد أنفسنا. من يوكل نفسه إلى يسوع، يختبر في هذه الحياة سلام القلب وفرحه اللذين لا يمكن أن يمنحهما العالم ولا يمكن أن يأخذهما عندما يمنحنا الله إياهما.

لذلك، يجدر بنا أن نسمح لنار الروح القدس بأن تلمسنا! فالمعاناة التي تسببها لنا هي ضرورية لتبدلنا. هذا هو واقع الصليب: لذلك فإن “النار” بلغة يسوع تمثل أولاً سر الصلب الذي من دونه لا وجود للمسيحية.

من خلال غرف النور والتعزية من كلمات الحياة هذه، فلنرفع ابتهالنا: تعال أيها الروح القدس! أضرم فينا نار محبتك! نحن نعلم أن هذه الصلاة جريئة لأننا نسأل من خلالها أن تلمسنا شعلة الله؛ لكننا نعلم أولاً أن هذه الشعلة – وحدها – قادرة على إنقاذنا. نحن بالدفاع عن حياتنا لا نريد أن نخسر الحياة الأبدية التي يريد الله أن يمنحنا إياها. نحن بحاجة إلى نار الروح القدس لأن المحبة هي وحدها التي تفتدينا. آمين. 

نقلته إلى العربية غرة معيط (Zenit.org)

حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2010

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير