بقلم روبير شعيب
روما، الجمعة 28 مايو 2010 (Zenit.org). – يخبر موريس بلوندل في مذكراته الروحية أنه قام في ليلة مصليًا، طالبًا من الله نور كلمة، وفتح الإنجيل فوقعت عيناه على هذه الكلمات: “ Duc in altum et extende retia ” أي “غوصوا في العمق وألقوا الشباك للصيد” (راجع لو 5، 4). إنطلاقًا من هذه الكلمات فهم أن المشروع الذي يدعوه إليه الله هو الانكباب على درس “فلسفة الفعل”.
اختيار “الفعل” كموضوع للدرس هو خيار استلهمه من الإنجيل الذي يربط بالفعل وحده “سلطان الكشف عن حب الله والحصول عليه”.
أدرك بلوندل أن معيار فعالية حدسه كان القبول الذي ستلقاه أطروحته، التي لم تكن بالنسبة له مجرد “تمرين مدرسي”. وقد كان حدث الدفاع عن الأطروحة تأكيدًا وتثبيتًا أن حلمه لم يكن وهمًا. فقد بين له القبول الواسع أنه يستطيع أن يرجو حقًا أنه يمكن أن يُؤخذ مفهوم الوحي فلسفيًا بعين الاعتبار، وأن الجو الإلهي المسيحي ليس مجرد بيئة وإطار داكن بل هو إطار يمكن فيه أن يقوم المرء بمقاربة وبلقاء فلسفي. لقد وضعته أطروحته أمام واقع ملموس: وهو أنه يستطيع “أن يتكلم إلى الأشخاص المهمين عما لا يهمهم”. وبما أنه كان يتمتع بالاستعداد الفلسفي اللازم لكي يحمل البعد الإلهي إلى ميدان الفلسفة، أدرك أنه لا يمكنه ألا يقوم بذلك دون أن يكون قد خان واجبه الديني.
مع ذلك، يعبّر بلوندل عن جهوزية لإماتة زخمه الطبيعي للوصول إلى خيار “لامبالاة مطواعة واستسلام أكمل لله”. يشعر فيلسوف أكس أن بروفنس، بكلمات أخرى، أنه مستعد لكي يضحّي بخدمته الفلسفية لصالح الكهنوت من خلال القيام بإخلاء ذات مزدوج، ولكنه يتساءل عما إذا كان هذا “التخلي الكلي” هو حقًا ما يريده الله منه.
تلقي كلمة إنجيلية أخرى نورًا حول إمكانية قراءة معكوسة لمسيرته: “أما يسوع فقال له: إذهب إلى بيتك وإلى أهل دارك وأخبرهم بما فعل لك الرب وبرحمته لك” (مر 5، 18 – 19). النص الذي يتحدث عنه بلوندل هو نص شفاء المسموس، الذي يطلب بعد الشفاء إلى يسوع أن يبقى معه، ولكن الرب يرده إلى بيته لكي يعلن رحمة الرب بين أهله.
قام بلوندل بتقييم فرح الكهنوت، وإمكانية التواصل بشكل أعمق مع الله والنفوس، وقيّم أيضًا العمل الخفي، المستوحش والجاف الذي يقوم به في عمله الفلسفي. ووقف أمام هاتين الحالتين في تجرد مطلق ولامبالاة سليمة، وتشهد على ذلك الرسالة التي وجهها إلى المونسينيور بياي راعي سان-سوبليس. فصفحات هذه الرسالة تشهد بأن بلوندل قد وضع نصب عينيه إرادة الله مميزًا بين نوعين من عيش الكهنوت: عيش الحالة الكهنوتية، أو “حفظ موهبة كهنوتية في الحياة العلمانية”.
إن جواب المونسينيور الإيجابي سيسمح لبلوندل أن يعتنق خيار البقاء خارج المعبد لكي يرشد إليه أولئك الذين هم في خارج الإيمان، حافظًا في قلبه بعرفان تقوي وبحمية متقدة، مسحة فكر الكهنوت التي فتحت له المسيرة التي لم يكن الكهنوت خاتمتها.
فكرة الكهنوت التي حركت مسيرة بلوندل ستتجسد في “كهنوت الفكر”، وسيعيشها الفيلسوف كخدمة متواضعة تتجسد في البحث، في الدفاع عن المسيحية، وفي الشهادة النبوية التي ستحمل ثمارها في تفكير الكثير من كبار الفلاسفة واللاهوتيين (من أشهرهم: هنري دو لوباك، أوغوسك فالنسين، غاستون فسّار، هنري بويار، لوسيان لابرتونير، جال باليار، بول أرشامبو…)، وأيضًا ستحمل خصب ثمار روحية، منها ارتداد محمد علي مولى زاده، التركي المرتد عن الدين الإسلامي والذي سيضحي فيما بعد المونسينيور بول مولى.
بحق قيل في بلوندل: “هذا المفكر هو كاهن (مثل كلوديل في إطار الشعر) يتشح حلة الكهنوت في محفل الفلاسفة واللاهوتيين، حاملاً في قلبه سرًا: يحمل مثل القديس ترسيسيوس خبز القربان المقدس، رفيق الدرب. يُنقّل الافخارستيا من صفحة إلى صفحة مؤشرًا ضعيفًا ونيّرا، ضيفًا مجهولاً يتخفى وراء أسماء مستعارة عديدة”.