روما، الثلاثاء 07 سبتمبر 2010 (Zenit.org) – ننشر في ما يلي القسم الثاني من الرسالة التي يوجهها البابا بندكتس السادس عشر للشباب بمناسبة يوم الشبيبة العالمي الذي يقام في مدريد سنة 2011 تحت شعار “وأنتم متأصلون ومبنيون في المسيح وراسخون في الإيمان” (كول 2، 7).
3. راسخون في الإيمان
كونوا متأصلين ومبنيين في المسيح وراسخين في الإيمان (كول 2، 7). إن الرسالة التي أخذ منها هذا القول كتبها القديس بولس لتلبية حاجة مسيحيي مدينة كولوسي. ففي الواقع أن هذه الجماعة كانت مهددة بفعل تأثير بعض نزعات ثقافة العصر التي كانت تبعد المؤمنين عن الإنجيل. أيها الشباب الأعزاء، هناك أوجه شبه عديدة بين سياقنا الثقافي وسياق أبناء كولوسي في ذلك الزمن. يوجد تيار “علماني” قوي يريد حذف الله من حياة الأفراد والمجتمع، مقترحاً ومحاولاً خلق “فردوس” من دونه. لكن التجربة تعلم أن العالم من دون الله يصبح “جحيماً” تسود فيه الأنانية والانقسامات العائلية والضغينة بين الأفراد والشعوب، ونقص الحب والفرح والرجاء. بالمقابل، عندما يعيش الأفراد والشعوب في حضور الله، ويعبدونه في الحقيقة ويصغون إلى صوته، عندها تبنى حضارة المحبة حيث تحترم كرامة الجميع، وحيث تنمو الشركة بكل ثمارها. لكن بعض المسيحيين يسمحون لنفسهم بالافتتان بأسلوب التفكير العلماني، أو يميلون نحو تيارات دينية تبعد عن الإيمان بيسوع المسيح. آخرون، ومن دون الالتزام بمقاربات مماثلة، يسمحون بفتور إيمانهم بالمسيح مما يرتب تبعات سلبية محتومة على الصعيد الروحي.
إلى الإخوة المتأثرين بهذه الأفكار الغريبة عن الإنجيل، يتحدث الرسول بولس عن قدرة المسيح المائت والقائم من بين الأموات. هذا السر هو أساس حياتنا، ومحور الإيمان المسيحي. وكل الفلسفات التي تجهله وتعتبره كـ “جهالة” (1 كور 1، 23) تظهر محدوديتها أمام المسائل العظيمة التي تخيم على قلوب البشر. لذلك أنا أيضاً، كخليفة الرسول بطرس، أرغب في ترسيخكم في الإيمان (لو 22، 32). نحن نؤمن بثبات بأن يسوع المسيح بذل نفسه على الصليب ليعطينا محبته. بآلامه، حمل معاناتنا، وتحمل ذنوبنا، ونال لنا المغفرة وصالحنا مع الله الآب، فاتحاً لنا درب الحياة الأبدية. هكذا، حررنا من أكبر عائق في حياتنا وهو عبودية الخطيئة. إذاً يمكننا أن نحب كل البشر حتى أعداءنا، ونشارك هذه المحبة مع إخوتنا الأكثر فقراً وتألماً.
أيها الأحباء، إن الصليب يخيفنا أحياناً لأنه يبدو كإنكار للحياة. لكنه العكس في الواقع! إنه “استجابة” الله للإنسان، التعبير الأسمى عن محبته والمنبع الذي تنبثق الحياة منه. فمن قلب يسوع المجروح على الصليب، انبثقت هذه الحياة الإلهية المتوفرة دوماً لمن يرفع نظره نحو الصليب. لا يسعني إذاً إلا أن أدعوكم إلى قبول صليب يسوع، رمز محبة الله، كمصدر حياة جديدة. فلا خلاص من دون المسيح المائت والقائم من بين الأموات! وحده هو القادر على تحرير العالم من الشر وتنمية مملكة العدالة والسلام والمحبة التي نصبو إليها جميعاً.
4. الإيمان بيسوع من دون رؤيته
في الإنجيل، توصف تجربة الإيمان التي عاشها الرسول توما في قبول سر الصلب وقيامة المسيح. كان توما واحداً من الرسل الاثني عشر. تبع يسوع وكان شاهداً مباشراً على الشفاءات والمعجزات التي اجترحها. أصغى إلى كلماته، وشعر بالضياع أمام موته. عشية عيد الفصح، ظهر الرب لتلاميذه، لكن توما لم يكن حاضراً. وعندما قيل له أن يسوع حي وأنه أظهر نفسه، قال: “إن كنت لا أرى أثر المسامير في يديه، وأضع إصبعي في مكان المسامير، وأضع يدي في جنبه، فلا أؤمن!” (يو 20، 25).
نحن أيضاً نريد أن نرى يسوع، ونتحدث معه، ونشعر أكثر بحضوره. اليوم، بات من الصعب لكثيرين التقرب من يسوع. وبالتالي، تنتشر صور كثيرة ليسوع، صور تدعي بأنها علمية وتجرده من عظمته وتفرده. لذلك، وخلال سنوات طويلة من الدراسة والتأمل، فكرت في مشاطرة جزء من لقائي الشخصي مع يسوع من خلال تأليف كتاب، وذلك لمساعدة الآخرين على رؤية وسماع ولمس الرب الذي جاء الله من خلاله ليلتقي بنا فيصبح معروفاً. في الواقع أن يسوع بنفسه، عندما ظهر مجدداً لتلاميذه بعد ثمانية أيام، قال لتوما: “هات إصبعك إلى هنا، وانظر يديّ، وهات يدك وضعها في جنبي. ولا تكن غير مؤمن بل كن مؤمناً!” (يو 20: 26، 27). نحن أيضاً نستطيع أن نكون على تواصل ملموس مع يسوع، ونضع يدنا على رموز آلامه، رموز محبته: في الأسرار، يصبح قريباً منا، ويبذل نفسه من أجلنا. أيها الشباب الأعزاء، تعلموا “رؤية” و”ملاقاة” يسوع في سر الافخارستيا حيث هو حاضر وقريب ومستعد ليصبح قوتاً لدربنا؛ وفي سر التوبة الذي يظهر فيه الرب رحمته من خلال منح المغفرة. تعرفوا إلى يسوع واخدموه أيضاً من خلال الفقراء والمرضى والإخوة المتألمين والمحتاجين إلى المساعدة.
ابنوا حواراً شخصياً مع يسوع المسيح ونموه في الإيمان. تعرفوا إليه من خلال قراءة الأناجيل وتعليم الكنيسة الكاثوليكية. ابنوا حواراً معه في الصلاة، وامنحوه ثقتكم: وهو لن يخونها أبداً! “الإيمان هو أولاً التزام فردي للإنسان بالله؛ وهو في الوقت عينه ومن دون انفصال الموافقة الحرة على الحقيقة التي أظهرها الله” (تعليم الكنيسة الكاثوليكية، 150). هكذا، تستطيعون اكتساب إيمان ناضج وراسخ لن يكون مبنياً فقط على شعور ديني أو على ذكرى مبهمة عن التعليم الديني الذي درستموه في طفولتكم. ستتمكنون من التعرف إلى الله والعيش معه فعلياً، كالرسول توما عندما يجاهر بإيمانه بيسوع هاتفاً بقوة: “ربي وإلهي!”.
5. الات
كال على دعم إيمان الكنيسة لنكون شهوداً
عندها، قال يسوع: “ألأنك رأيتني آمنت؟ طوبى للذين يؤمنون دون أن يروا” (يو 20، 28). كان يفكر في درب الكنيسة القائمة على إيمان شهود العيان، الرسل. نحن نفهم إذاً أن إيماننا الشخصي بالمسيح، الناشئ عن حوار استثنائي معه، مرتبط بإيمان الكنيسة: نحن لسنا مؤمنين منعزلين، لكننا بالعماد أعضاء في هذه العائلة الكبيرة، والإيمان الذي تجاهر به الكنيسة هو الذي يعزز إيماننا الشخصي. وقانون الإيمان الذي نعلنه خلال قداس الأحد يحمينا من خطر الإيمان بإله مختلف عن الإله الذي كشفه يسوع لنا: “وهكذا فإن كل مؤمن هو كحلقة صغيرة في سلسلة المؤمنين الكبيرة. أنا لا أستطيع أن أؤمن من دون أن يدعمني إيمان الآخرين، ومن خلال إيماني، أسهم في تعزيز إيمان الآخرين” (تعليم الكنيسة الكاثوليكية، 166). فلنشكر الرب من دون انقطاع على هبة الكنيسة لأنها تساعدنا على التقدم بأمان في الإيمان الذي يعطينا الحياة الحقيقية (يو 20، 31).
في تاريخ الكنيسة، استمد القديسون والشهداء من صليب المسيح المجيد القوة ليبقوا أمناء لله حتى بذل ذواتهم. في الإيمان، وجدوا القوة للتغلب على ضعفهم وتخطي الشدائد. وكما يقول الرسول يوحنا: “ومن ينتصر على العالم إلا الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله؟” (1 يو 5، 5). والانتصار الناجم عن الإيمان هو انتصار المحبة. كثيرون من المسيحيين كانوا وما يزالون شهوداً أحياء على قوة الإيمان المعبر عنه في المحبة: لقد صنعوا السلام، ودافعوا عن العدالة، وعملوا من أجل عالم أكثر إنسانية، عالم متوافق مع المخطط الإلهي. لقد التزموا بمجالات عديدة في الحياة الاجتماعية، بجدارة واحتراف، مسهمين بفعالية في المصلحة العامة. وأرشدتهم المحبة المنبثقة عن الإيمان إلى تقديم شهادة ملموسة بالأقوال والأفعال: المسيح ليس فقط كنزاً لنا وحدنا، بل هو الكنز الأثمن الذي يجب أن نتقاسمه مع الآخرين. في عصر العولمة، كونوا شهود الرجاء المسيحي في العالم أجمع: كثيرون هم الذين يتوقون لنيل هذا الرجاء! أمام قبر صديقه لعازر الذي مات قبل أربعة أيام، وقبل إقامته من الموت، قال يسوع لمرتا: “إن آمنت ترين مجد الله” (يو 11، 40). أنتم أيضاً، إن آمنتم، وتمكنتم من عيش إيمانكم والشهادة له يومياً، ستصبحون وسائل تساعد شباباً آخرين مثلكم على إيجاد معنى وفرح الحياة الناشئين عن اللقاء مع المسيح!
6. نحو يوم الشبيبة العالمي في مدريد
أيها الأحباء، إنني أجدد دعوتي لكم للمجيء إلى يوم الشبيبة العالمي في مدريد. بفرح عظيم، أنتظر كل واحد منكم: المسيح بنفسه يريد ترسيخكم في الإيمان من خلال الكنيسة. إن خيار الإيمان بالمسيح واتباعه ليس سهلاً أبداً إذ تعيقه دوماً نقاط فشلنا وكثرة الأصوات المشيرة إلى الدروب الأكثر سهولة. لا تيأسوا، وابحثوا عن دعم الجماعة المسيحية، دعم الكنيسة! خلال هذه السنة، استعدوا للقاء مدريد مع أساقفتكم وكهنتكم والمسؤولين عن راعوية الشباب في الأبرشيات، الجماعات الرعوية، الجمعيات والحركات. فإن نوعية لقائنا متعلقة بخاصة بالإعداد الروحي، والصلاة، والإصغاء المشترك لكلمة الله والدعم المتبادل.
أيها الشباب الأعزاء، الكنيسة تعتمد عليكم! إنها بحاجة إلى إيمانكم الحي، ومحبتكم الخلاقة، وحيوية رجائكم. حضوركم يجدد الكنيسة ويعطيها دفعاً جديداً. لذلك، فإن أيام الشبيبة العالمية هي نعمة ليس فقط لكم وإنما أيضاً لشعب الله أجمع. الكنيسة في إسبانيا تستعد بنشاط لاستقبالكم وعيش تجربة الإيمان السارة معكم. أشكر الأبرشيات والرعايا والمزارات والجماعات الدينية والجمعيات والحركات الكنسية التي تجتهد في التحضير لهذا الحدث. الرب لن ينسى أن يباركها.
فلترافقكم مريم العذراء على هذه الدرب التحضيرية! فقد رحبت بإيمان بكلمة الله عندما بشرها الملاك. بإيمان، قبلت العمل الذي كان ينجزه الله فيها. من خلال إعلان قبولها، نالت هبة محبة عظيمة دفعتها إلى بذل ذاتها بالكامل لله. فلتتشفع لكل واحد منكم لكيما تتمكنوا خلال يوم الشبيبة العالمي المقبل من النمو في الإيمان والمحبة! أؤكد لكم على ذكركم الأبوي في صلاتي، وأبارككم من كل قلبي.
من الفاتيكان، في السادس من أغسطس 2010، عيد تجلي الرب.
البابا بندكتس السادس عشر
نقلته إلى العربية غرة معيط (Zenit.org)
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2010