بقلم روبير شعيب

الفاتيكان، الاثنين 10 يناير 2011 (ZENIT.org). - إن مؤلف، (أو مؤلفي) الفصل الأول من سفر التكوين، المنتمي إلى التقليد المعروف بالكهنوتي يعرف جيدًا أساطير الخلق في الثقافات المحيطة، ويعرف أيضًا العلوم الجيولوجية المنتشرة في زمانه، وانطلاقًا من المواد المتوفرة والشائعة يقوم بتقديم نظرة إيمان شعب الله مستعينًا بهذه المعلومات والمعطيات، بعد أن يطهرها مما لا يتطابق مع هذا الإيمان.

على سبيل المثال، نجده يرفض المفهوم الشائع في بعض الأساطير السومرية القائلة بأن الآلهة قد خلقوا الإنسان لأنهم كانوا تعبين من العمل، فأرادوا الإنسانَ عبدًا يهوّن عن الآلهة عملهم وينوب عنهم في الكد والجدّ.

كما ويرفض المؤلف الموحى مبدأ الخلق بـ "الفيض"، أي من خلال انبثاق عن الله، كما لو أن الخليقة هي امتداد من الله. وعليه، بالعودة إلى نص سفر التكوين نجد كلمة "خَلَق" التي تشكل جدة في فهم صيرورة الكون: عندما نقول الله "خلق"، نعني أن الكون ليس الله، وأن الله ليس جزءًا من الكون، بل أن الله يسمو الخليقة: الله هو آخر بالنسبة للعالم، هو الآخر المطلق. والعالم المخلوق ليس إلها، بل هو من صنع الله، هو خليقة كلمة الله. وما يميّز الفصلين الأولين من سفر التكوين هو هذا الطابع الخلقي الذي يعبّر عنه كل فصل بشكل مختلف، فالفصل الأول يتحدث عن الخلق كعمل "يقوله" الله. أما الفصل الثاني فيتحدث عن الله كعمل "يفعله" الله. وكل هذا يقوم به الله الكلمة "دَبَر"، حيث "كلمة" لا تعني فقط ما تقوله لغاتنا المحكية، أي ترداد الصوت الصادر عن فعل الكلام وحسب، بل في الوقت عينه الحدث. كلمة الله هي حدث في آن، هي كلمة تفعل ما تقوله.

إذا ما نظرنا إلى الفصل الأول من سفر التكوين لوجدنا وقعًا مهيبًا ووقورًا مبنيًا أيضًا على تناوب الليل والنهار في سبعة أيام. هذا وإن كل محاولة لفهم حرفي لهذه "الأيام" كأيام زمنية محددة ومتساوية سيؤوب إلى الفشل، وذلك ببساطة لأنه لا يجيب على نية الكاتب الأساسية. وتدخل في هذا الإطار محاولة بعض المفسرين (بعض تيارات البروتستانت الأميركيين) رؤية "العصور" الجيولوجية كأيام الخلق. هذه المحاولات، أكرر، لا معنى لها، لأنها لا تعبّر عن نية الكاتب الكهنوتي: الفصل الأول من سفر التكوين لا يبغي أن يعلمنا كيف خلق العالم بل مَن خلق العالم ولماذا. يريد أن يعلمنا أيضًا كيف يجب أن نعيش في العالم. وبما أن الكاتب ينتمي إلى التقليد الكهنوتي، فهو يريد أن يقدم قراءة ليتورجية ووقعًا طقسيًا لخلق الله لكي ينطبق هذا على عيش الإنسان.

أول ما يقوله الكاتب لنا هو أن العالم ليس وليد النشوء الفجائي والعشوائي: هو خليقة الله. العالم موجود لأن روح الله الذي كان يرفرف على "المياه" شاء أن يكون هناك كون. وكلمة الله الأولى هي "فليكن هناك نور". خليقة الله هي للخير، ويقول لنا إنجيل يوحنا: كل ما خلق فيه كان حياة والحياة نور الناس".

والأمر الثاني الذي يقوله لنا النص هو أن الله ينظر إلى خليقته ويجدها "جيدة-جميلة". فكلمة "طوب" بالعبرية تعني في الوقت عينه "جميل-جيد". الخليقة تنطلق مع الخواء والخراب إلى الجمال والتنظيم، نحو نظام يقيمه الله انطلاقًا من عمليات فصل ولقاء. الفصل والتمييز هو قيمة، الخلط العشوائي الذي يجعل كل الأمور متساوية هو فقدان لجمال الخليقة المتنوعة. وهكذا يخلق الله النور، فيفصله ويميزه عن الظلام، ويفصل السماء عن الأرض، ويفصل اليبس عن البحر وهكذا دواليك.

قبل أن ننهي هذه الحلقة نتوقف على الآية 14 حيث يقول الله "فليكن هناك نيرات في جلد السماء". ونتساءل فورًا إذا ما قرأن بتمعن: كيف ذلك؟ ألم يتحدث عن النور؟ ألم يقصد بذلك الشمس ومختلف النيرات؟ هذه الآية تفهمنا أكثر فأكثر أن الفصل الأول من سفر التكوين ليس زمنيات خلق الله بل هو نص لاهوتي يريد أن يقدم رسالة خاصة. كما نعلم جيدًا، الشعوب المحيطة بإسرائيل كانت شعوب تعبد آلهة متعددة، وبالطبع، كان الشمس والقمر يشكلان جزءًا من كون الآلهة. ولهذا، بعد أن قال الكاتب أن الله بدأ خليقته بالنور، ليعبر عن صلاح الخلق، يترك الشمس والقمر لليوم الرابع، فنفهم أولاً أن "كان ليل وكان نهار هو تعبير مجازي، فكيف يكون ليل ونهار دون الشمس الذي يسمح بهذا؟ وثانيًا أن الشمس والقمر هما خلائق، وخلائق صغيرة جدًا نسبيًا في كون الله الواسع، وأنهما مخلوقات زمنية موجودة لكي تتجاوب مع أمر الله ولكي تقوم بالخدمة التي أوكلها هو لها. ولكي يشدد على مخلوقية هذه الكواكب، يضعها المؤلف البيبلي بين خلق النباتات وخلق الحيوانات.

والرب معكم.