روما، الجمعة 25 فبراير 2011 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي الرسالة التي وجهها رئيس أساقفة تونس، المونسينيور مارون لحام، بعد مقتل الكاهن البولندي السالسي مارك ريبنسكي في 18 فبراير الماضي.

* * *

أعزائي وعزيزاتي،

لا نبرح نعيش أحداثًا (وأترك عمدًا الكلمة دون صفة). والآن جاء دور الأب مارك، السالسي البالغ من العمر 34 سنة، والمتواجد في تونس من عام 2007 في مدرسة السالسيين في مانوبا.

لقد نشر وزير الداخلية بيانًا صرح فيه أن القاتل كان عاملاً في المدرسة. يشرح الآباء السالسيون أن القاتل كان قد أخذ قرضًا خلال فترة العيد (منذ ثلاثة أشهر) قدرها 2000 دينار تونسي ليشتري بضائع لعمله. ويبدو أنه صرف الأموال لأمور أخرى، وقد رفض البائع أن يهبه المواد دون أن يدفع ثمنها، وقد أصر الأب مارك على ضرورة إعادة أموال المدرسة. خوفًا من أن ينكشف أمره، وقد اعتراه الخوف، يخبر بيان وزير الداخلية، أن "القاتل فاجئ الكاهن وقتله بضربات متتالية بواسطة أداة  صلبة على الرأس والعنق، الأمر الذي تسبب بموته. الجرم تم بسبب خوف أن ينكشف أمره".

بعد أن انتهينا من الأمور القانونية، سنحتفل بقداس في الكاتدرائية قبل إعادة الجثمان إلى بولندا. وسيتم تعميم نهار وساعة الاحتفال أيضًا.

ماذا نقول؟ رعب، حزن، غضب، رفض، قلق، خوف، شك... كل هذه الأمور تختلج في صدورنا. لماذا قُتل الأب مارك؟ لأجل 2000 دينار! نكاد لا نصدق. هناك بكل تأكيد وقائع لا أعرفها. ولكن، بالمقابل، هناك أمور أعرفها:

- أعرف أن الأب مارك كتب قبل أسبوعين من مقتله، بشأن الشعب التونسي: "إنها أمّة شابة، حاذقة، غير قادرة على العنف (كلمات حرفية!)، ذات طيبة عميقة ولا تستطيع أن تعرف الكره".

- أعرف أنه كان يكتب كتابه الأول حول تونس حيث يقول في ما يقول: "خلال إقامتي في تونس، تطورت نظرتي نحو إخوتي المسلمين بشكل كبير. لقد زال بالتمام الخوف من الإرهاب والتطرف. فالتونسيون هم مضيافون، محبون وأغنياء بالدفء. وهم يعلمونني هذا الأسلوب".

- أعرف أنه اقترح نفسه كمتطوع في تونس منذ أربع سنوات، قبل سيامته الكهنوتية.

- أعرف أنه طلب المال من كل حدب وصوب لكي يرمم مواضع المدرسة التي كان يحبها كثيرًا والتي كان مدبرها الاقتصادي.

أتصور نفسي بحضرة قاتله لكي أطرح عليه بعض الأسئلة: ما السبب الحقيقي وراء قتلك للأب مارك؟ ولماذا قتلته بهذا الشكل البربري؟ ألم يلهمك شبابه وبراءته أية مشاعر رحمة؟ وجسده الهزيل؟ لقد قضيت عليه بضربات مطرقة، ألم يكفي ذلك؟ هل كان من الضروري قطع رأسه وجعله يغرق في دمائه؟ كيف تمكنت من النوم بعد ذلك؟ من أية مادة أنت مصنوع؟ ما هو دينك؟ هل أنت من الذين يؤمنون بالله الرحمن الرحيم؟ كيف تستطيع إذًا أن توفّق بين جريمتك وإيمانك؟

أجب على هذه الأسئلة، طمئنّا، طمئن فينا قلوب الأب والإخوة... وبعد ذلك، أنا أعدك بالغفران. يتوجب عليك أولاً أن تطلبه إلى الله، وبعد ذلك سيكون لك غفران الكنيسة الكاثوليكية في تونس.

"إن حبة الحنطة التي تسقط في الأرض لا تموت...". لقد سقط، لقد مات، وعلى مثال المسيح الذي تكرس الأب مارك له، حمل ثمارًا. كل رسائل التعاضد، كل أشكال التعاطف، الورود التي وضعت على باب الكاتدرائية، التونسيون الذين عبروا عن مشاعرهم أمام الكاتدرائية بشارات "مارك، الغفران". والشباب التونسيون الذين أتوا إلى الكاتدرائية نهار الأحد 20 فبراير حاملين الورود وعيونهم دامعة كان شعارهم: "نحن لم نقتله، هذه ليست تونس... سامحنا!"؛ ومضوا بعد أن عانقوا الأخوات.

ردة الفعل الرسمية تندرج في الإطار عينه، انطلاقًا من رئيس الوزراء، وزير الداخلية، وزير الشؤون الخارجية، وزير العمل، وزير التربية، وزير الشؤون الدينية، وزير السياحة؛ السفراء العرب وحتى حزب النهضة الإسلامي... هل كان من الضروري أن يموت كاهن لندرك كل هذا التعاطف والود؟ الثمن غالٍ جدًا. نحن نقدر كثيرًا كل بوادر الصداقة هذه، ولكنها لا تساوي قطرة دم واحدة من "ماركنا".

والآن؟ حسنًا، فإننا نمضي قدمًا. الوقت ليس ساعة الاضطراب، إنها ساعة الإيمان، الصبر والحذر. مغادرة البلاد؟ حتمًا لا، فزمن الصعاب ليس زمن الهرب. أقول هذا باسمي الشخصي أولاً، وأعتقد أنني أستطيع أن أتكلم باسم كل رجال الدين في كنيسة تونس، وباسم كل المسيحيين في البلاد. أقول ذلك لأجل إخوتنا المسلمين واليهود. نحن نبقى في هذا البلد الذي يستقبلنا، والذين يحبنا ونحن نبادله المحبة. نبقى هنا لأجلكم أيضًا، لأننا نريد أن نغتني بحضوركم وباختلافكم، ونحن نعرض عليكم بدورنا القيم التي نؤمن بها والتي نسعى إلى عيشها بالرغم من ضعفنا، قيم تستطيع أن تهبكم دفعًا من الإيمان والرجاء والثقة.

الحياة أقوى من الموت، والحب أيضًا.

مارون لحام

رئيس الأساقفة

<p>* * *

نقله من الفرنسية إلى العربية روبير شعيب – وكالة زينيت العالمية