عظة البابا بندكتس السادس عشر بمناسبة عيد الشعانين

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

الفاتيكان، الاثنين 18 أبريل 2011 (ZENIT.org). – ننشر في ما يلي عظة البابا بندكتس السادس عشر في معرض الاحتفال بقداس أحد الشعانين في ساحة القديس بطرس في الفاتيكان نهار الأحد 18 أبريل 2011.

* * *

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

أيها الشباب الأعزاء،

يؤثر فينا مجددًا كل عام، في أحد الشعانين، الصعود سوية مع يسوع نحو الهيكل، ونرافقه في الطريق المتصاعد نحو العلاء. في هذا اليوم، في كل الأرض وعلى امتداد كل العصور، يصرخ الشعب والشباب هاتفين ليسوع: “هوشعنا لابن داود! مبارك الآتي باسم الرب!”.

ولكن ماذا نفعل حقًا عندما نندرج في إطار تلك المسيرة – مع حشد الذين يصعدون مع يسوع إلى أورشليم ويهتفون به ملكًا على إسرائيل؟ هل هو أمر أكثر من احتفال ما أو عادة ما؟ هل هو أمر مرتبط بحياتنا، بعالمنا؟ لكي نجد الجواب، لا بد لنا أن نعي ماذا أراد يسوع حقًا وماذا فعل. بعد اعتراف الإيمان الذي قام به بطرس في قيصرية فيليبس، في شمال الأراضي المقدسة، بدأ يسوع مسيرته كحاج نحو أورشليم للاحتفال بعيد الفصح. إنه في مسيرة نحو هيكل المدينة المقدسة، نحو ذلك المكان الذي كان يضمن لإسرائيل قرب الله من شعبه. في مسيرة نحو عيد الفصح المشترك، ذكرى التحرير من مصر وعلامة رجاء التحرير النهائي. يعرف أن في انتظاره فصح جديد وأنه هو بالذات سيأخذ مكان الحملان المذبوحة، مقدمًا ذاته على الصليب.

يعرف أنه في هبتي الخبز والخمر، سيهب نفسه دومًا إلى خاصته، ويفتح لهم باب الدخول إلى الحرية، نحو الشركة مع الله الحي. إنه في مسيرة نحو علو الصليب، نحو لحظة الحب الذي يهب ذاته. قمة حجه هي سمو الله الذي يريد أن يرفع الكائن البشري نحوه.

مسيرتنا اليوم تريد أن تكون صورة لأمر أعمق، صورة لمسيرتنا مع يسوع في الحج في الدرب السامية نحو الله الحي. هذا هو الصعود الذي نحن بصدده. هذه هي المسيرة التي يدعونا يسوع إليها. ولكن كيف يمكننا أن نحفظ وقع هذا الصعود؟ ألا يفوق قوانا يا ترى؟ نعم، إنه أكبر من مؤهلاتنا. فمنذ البدء كان البشر ممتلئون – واليوم أكثر من قبل – من الرغبة في أن “يكونوا مثل الله”، أن يصلوا إلى سمو الله. في كل ابتكارات الروح البشري، نحن في نهاية المطاف بصدد سعي للحصول على الأجنحة، لكي نرتفع لسمو الكائن، لكي نضحي مستقلين، أحرارًا بالكلية، مثل الله بالذات.

لقد تمكنت البشرية من تحقيق أمور كثيرة: نحن نستطيع أن نطير. يمكننا أن نرى بعضنا بعض، أن نسمع بعضنا البعض، وأن نتخاطب من منطقة في العالم إلى منطقة أخرى. ولكن قوة الجاذبية تشدنا نحو الأسفل. مع نمو قدراتنا لم يُنم الخير وحسب.  بل أيضًا القدرة على فعل الشر، وهذه القدرة تقوم مثل عاصفة مهددة للتاريخ. لقد بقيت محدودياتنا أيضًا: كفى بنا أن نفكر بالمآسي التي أصابت البشرية في الأشهر الأخيرة وما زالت توجعها حتى الآن.

لقد قال الآباء أن الإنسان موجود في نقطة التقاء حقلي تجاذب. هناك قبل كل شيء قوة الجاذبية التي تشده إلى الأرض – نحو الأنانية، نحو الرياء ونحو الشر؛ الجاذبية التي تحطنا وتبعدنا عن الله. ومن ناحية أخرى هناك قوة الحب التي تشدنا إلى العلاء: حب الله لنا وجوابنا على الحب يجذباننا إلى العلاء. يجد الإنسان نفسه في وسط قوة الجاذبية المزدوجة هذه، وكل شيء يتعلق بهروبه من جاذبية الشر لكي يضحي حرًا فيسمح لقوة جاذبية الله أن تشده، هذه القوة التي تجعلنا حقيقيين، والتي ترفعنا وتهبنا الحرية الحقة.

بعد ليتورجية الكلمة، وفي مطلع الصلاة الافخارستية التي خلالها يحضر الرب في وسطنا، ترفع الكنيسة الدعوة إلى “رفع القلوب” (Sursum corda ). بحسب المفهوم الكتابي والآبائي، القلب هو محور الإنسان الذي يجمع بين العقل، الإرادة، العاطفة، الجسد والنفس. هذا المحور، الذي يضحي فيه الروح جسدًا والجسد روحًا؛ والذي تتحد فيه الإرادة، العاطفة، والعقل في معرفة الله وفي حبه. هذا “القلب” يجب رفعه. ولكن، مرة أخرى، نحن ضعفاء جدًا لكي نرفع قلوبنا حتى سمو الله. ليس ذلك في متناولنا. الكبرياء الذي يريد أن يقنعنا بأننا نستطيع أن نقوم بذلك بمفردنا هو الذي يشدنا نحو الأسفل ويبعدنا عن الله. يجب على الله بالذات أن يشدنا إلى العلاء، وهذا ما بدأه يسوع على الصليب. لقد نزل حتى أقصى أعماق الانحطاط البشري، لكي يرفعنا إلى العلاء نحو ذاته، نحو الله الحي. لقد واضع نفسه، بحسب القراءة الثانية اليوم. وفقط بهذا الشكل كان ممكنًا تجاوز كبرياءنا: تواضع الله هو الشكل الأقصى للتعبير عن حبه، وهذا الحب المتواضع يرفعنا نحو العلاء.

المزمور 24، الذي تعرضه الكنيسة علينا اليوم كـ “نشيد الصعود” لليتورجية اليوم، يشير إلى بعض العناصر الهامة، التي تتعلق بارتقائنا والتي من دونها لا نستطيع أن نرتفع نحو العلاء: الأيدي النقية، القلب الطاهر، رفض الرياء، البحث عن وجه الله. اكتشافات التكنولوجيا تحررنا، وهي جزء من تطور البشرية فقط إذا ما اتحدت بهذه المواقف – إذا أضحت أيدينا بريئة وقلبنا طاهر، وإذا كنا نبحث عن الحقيقة، عن الله بالذات، وإذا ما سمحنا له أن يلمسنا وأن يحثنا بحبه. كل عناصر الارتقاء هذه هي فعالة فقط إذا اعترفنا بتواضع أنه يجب أن يتم جذبنا للعلاء؛ إذا ما تخلينا عن كبرياء أن نريد أن نضحي الله من تلقاء ذاتنا. نحن بحاجة له: فهو يجذبنا نحو العلاء، ويثبتنا بيديه – أي بالإيمان – ويعطينا التوجيه الصحيح والقوة الداخلية التي ترفعنا نحو العلاء. نحن بحاجة لتواضع الإيمان الذي يبحث عن وجه الله ويثق بحقي
قة حبه.

السؤال حول كيفية تمكن الإنسان الوصول إلى العلاء، وكيف يضحي ذاته بالكامل وشبيهًا حقًا بالله، هو سؤال شغل البشرية دومًا. لقد ناقشه الفلاسفة الأفلاطونيون في القرنين الثالث والرابع. وكان سؤالهم المحوري حول كيفية إيجاد السبل للتطهير، والتي من خلالها يستطيع الإنسان أن يحرر نفسه من الثقل الذي يشده إلى الأسفل، وكيفية الارتقاء نحو قمة كيانه، نحو السمو الإلهي. القديس أغسطينوس، في بحثه عن الطريق المستقيم، بحث في بعض الوقت عن دعم في تلك الفلسفات. ولكن في النهاية اضطر أن يعترف بأن جوابها ليس كافيًا، وأن وسائلها ليست مؤاتية للوصول إلى الله. كان يقول للمثلي هذه الفلسفات: اعترفوا بأن قوة الإنسان وقوة كل أعمال التطهير التي يقوم بها ليس كافية لكي تحمله حقًا إلى السمو الإلهي، إلى السمو الذي يليق به. وكان يقول أنه لكان قد يئس من ذاته ومن وجوده البشري، لو لم يكن قد وجد ذلك الذي يفعل ما لا نستطيع فعله من تلقاء ذواتنا؛ ذاك الذي يرفعنا إلى سمو الله، بالرغم من بؤسنا: يسوع المسيح، الذي نزل من لدن الله إلينا، وفي حبه المصلوب أخذ بيدنا ورفعنا إلى العلاء.

نحن في مسيرة حج مع الرب إلى العلاء. نحن في بحث عن القلب الطاهر واليدين النقيتين، نحن نبحث عن الحقيقة، نحن نبحث عن وجه الله. فلنبين للرب عن رغبتنا في أن نضحي صديّقين ولنصل قائلين: اجذبنا أنت نحو العلاء! طهرنا! فلتتحقق فينا الكلمة التي ننشدها في مزمور الارتقاء؛ أي أن نستطيع أن ننتمي لذلك الجيل الذي يبحث عن الله، “الذي يبحث عن وجهك، يا إله يعقوب” (مز 24، 6). آمين.

* * *

نقله من الإيطالية إلى العربية روبير شعيب – وكالة زينيت العالمية

حقوق النشر محفوظة لدار النشر الفاتيكانية

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير