الأب سامي حلاّق اليسوعي

روما، الجمعة 29 أبريل 2011 (Zenit.org) – بهذه الكلمات، يخاطب القدّيس بولس مسيحيّي قورنتس في رسالته الأولى الّتي وجّهها إليهم. إنّه يبرهن من قيامة المسيح على قيامة الأموات، وهو اعتقاد كان مشكوكاً في أمره في ذلك الحين. لكنّنا نعيش اليوم في مجتمعٍ لا يشكّك البتّة بالقيامة. بل وفي عالمنا مؤمنون من دياناتٍ أخرى ومذاهب لم يقم مؤسّسوها من بين الأموات، ومع ذلك لا يقولون إنّ إيمانهم باطل. وإذ صارت قيامة الأموات من البديهيّات في غالبيّة الديانات الحاليّة، يجدر بنا أن نتساءل: ما هي أهميّة قيامة المسيح بالنسبة إلينا اليوم؟ وما هي القضيّة الإيمانيّة الّتي لن تكون باطلة بسبب قيامة المسيح؟

يعيش شرقنا العربيّ فترة غليانٍ شعبيّ، وثوراتٍ وتظاهراتٍ على أوضاعٍ فاسدة مستمرّة منذ ردحٍ من الزمن. وقد أقرّ الجميع، شعباً وحكّاماً، بهذا الفساد، ورأوا ضرورة الإصلاح، لكنّهم اختلفوا حول طريقة الإصلاح ومضمونه. وبسبب هذا الاختلاف، نشهد مظاهر للعنف من كلا الجانبَين، وانقسمت الآراء تجاه هذه المظاهر  بين مؤيّدٍ ومعارض.

في هذه الفترة الحاسمة، نحتفل بقيامة المسيح، الّتي اعتبرتها المسيحيّة طوال تاريخها انتصاراً على الفساد. ومن شأن هذه القيامة أن تملي علينا الطريقة المسيحيّة في مواجهة الفساد، والسعي إلى إصلاح الإنسان والمجتمع.

أوّلاً، لا يمكننا أن نفصل حدث القيامة عمّا سبقه، أي حياة يسوع العلنيّة وآلامه وموته. فالقيامة هي المرحلة الأخيرة لهذا المسار. وحياة يسوع العلنيّة كانت كلّها مواجهة للشرّ وتحدٍّ له. وليس من باب المصادفة أن تبدأ هذه الحياة بالتجارب في البرّيّة، هذه التجارب الّتي يمكننا أن نصفها بلغتنا المعاصرة بأنّها: تجربة حصر اهتمام الإنسان باحتياجاته المادّيّة من طعامٍ وشراب، تجربة تعالي الإنسان وهيمنته واحتقاره للآخرين وآرائهم ومواقفهم ومبادئهم، تجربة الطمع والنهب وبيع الضمير في سبيل تجميع الثروات.

ثانياً، لقد ميّز المسيح بين الخاطئ وخطيئته، بين الشرّير وشرّه، بين الفاسد وفساده، فأحبّ الأوّل وكره الثاني واستنكره. وهو يدعونا إلى هذا التمييز. أن نرغب في محاربة الفساد شيء، وأن نسعى إلى تدمير الفاسد وتعذيبه وقتله شيء آخر. فالفاسد كما العميل، والشرّير كما الخائن، والمستبدّ كما المندسّ، هو بشر مثلنا، والله يريد إصلاحه لا إفناءه. لذلك ألحّ يسوع على القول: لقد أتيتُ لأبحث عن الهالك لأنقذه.

ثالثاً، لم يسكت يسوع على الظلم الاجتماعيّ في زمانه، بل دأب على تقريع الأغنياء، الّذين كدّسوا ثرواتهم بالظلم والنهب واستغلال الفقير والمسكين. وحذا التلاميذ حذوه في هذا الأمر، ولنا في رسالة القدّيس يعقوب خير بيانٍ على ذلك. فلا يحقّ للمسيحيّ أن يرى المظالم تهدّ كاهل المساكين، فيتقوقع في أنانيّته ويقول: ما لي ولهم، المهمّ أنّني مرتاح. ففي مثل الدينونة، يقول لنا يسوع إنّ هؤلاء اللامبالين سينالون شرّ العقاب.

رابعاً، لم يستعمل يسوع العنف للقضاء على العنف. فالعنف لا يولّد سوى العنف. وما نشهده من ثوراتٍ واحتجاجات هي ثورات على ثوراتٍ اندلعت في الماضي لتقضي على الظلم، فصارت مع مرور الزمن ظلماً يجب القضاء عليه. وهنا ننتقل إلى المرحلة الثالثة من حياة يسوع، وهي الآلام والصلب. كان المسيح يستطيع أن يستعمل العنف، ولكنّه رفضه. حين همّ اليهود باعتقال يسوع، قطع القدّيس بطرس أذن رئيس الكهنة بالسيف؛ فقال له يسوع: « إِغمِدْ سيفَك، فكُلُّ مَن يَأخُذُ بِالسَّيف بِالسَّيفِ يَهلِك. أَوَتَظُنُّ أَنَّه لا يُمكِنُني أَن أَسأَلَ أَبي، فَيَمُدَّني السَّاعةَ بِأَكثَرَ مِنِ اثَنيْ عَشَرَ فَيْلَقاً مِنَ المَلائِكَة؟ ولكِن كيفَ تَتِمُّ الكُتُبُ الَّتي تقولُ إِنَّ هذا ما يَجِبُ أَن يَحدُث؟» (متى 26: 52 – 54).

أجل، هذا ما يجب أن يحدث. يجب ألاّ ندخل في لعبة العنف، كما يجب ألاّ نتهرّب في من مواجهة العنف. علينا أن نواجه الشرّ، أن نحارب الفساد، أن نتصدّى للاستبداد، ولكن بطريقة المسيح لا بطريقة العالم. علينا أن نواجه بروح المحبّة والحوار والسلام، لا بروح الكراهية والحقد والانتقام. وهنا تظهر المعضلة الكبرى. هنا حجر العثرة. هنا سيقول كثيرون: هذا الأسلوب غير مجدٍ. كثير من الأطراف المتنازعة ستقول هذا. وهنا يظهر الإيمان المسيحيّ بجِدَّتِه وجدّيّته، وتظهر القيامة بقوّتها المسالمة. فبينما يؤمن الضالّون بأنّ استعمال العنف هو الحل، يعلن المسيحيّون بأنّ الحلّ الّذي لم يكفّ عن البرهان عن نفسه عبر التاريخ هو السلام. سلام يحمل الرحمة للجميع، سلام لا يأنف عن محبّة الأعداء، سلام يريد خلاص الإنسان الخاطئ لا هلاكه. وبحسب منطق السلام هذا، لم ينتقم المسيح بعد قيامته من مضطهديه، بل ظهر قائماً منتصراً لمحبّيه، وكوَّن منهم جماعة تشهد للعالم عبر العصور بأنّ المسيح الّذي لم يلجأ إلى الثورة ولا إلى القمع قد قام، وهو رئيس السلام.

فلو لم يقم المسيح، لكانت تعاليمه هذه كلّها باطلة.