ننشر في ما يلي النص الكامل لعظة البابا يوم الأحد 3 فبراير 2013 بمناسبة ذكرى تقدمة الرب الى الهيكل التي تصادف أيضًا الذكرى ال27 للحياة المكرسة.
***
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
يشدد القديس لوقا في وصفه لطفولة يسوع على مدى أمانة مريم ويوسف لشريعة الرب. فبتفان كبير أتما ما يجب القيام به بعد ولادة طفل ذكر. كان هناك واجبين قديمين: الأول يتعلق بالأم، والثاني بالطفل المولود. فبالنسبة الى المرأة لا يمكنها أن تشارك بالطقوس لمدة 40 يوما بعد ذلك يتحتم عليها أن تقدم ذبيحتين: الأولى هي تقديم خروف للمحرقة والثانية تقديم يمامة أو حمامة تكفيرا عن الخطيئة؛ ولكن إن كانت المرأة فقيرة، فبإمكانها أن تقدم يمامتين أو حمامتين. (راجع سفر اللاويين 12: 1-8). يشير القديس لوقا الى أن مريم ويوسف قدما ذبيحة الفقراء (راجع 2: 24) ليظهر أن يسوع ولد في عائلة بسيطة، متواضعة، ولكنها قوية في الإيمان: عائلة تنتمي الى فقراء اسرائيل الذين يشكلون شعب الله الحقيقي. بعيد ولادة الابن الأول، الذي ينتمي لله بحسب شيريعة موسى، كان يجب تقديم فدية تقتضي بدفع 5 شيكل (عملة اسرائيلية) لأي كاهن في أي مكان. وكان يتم القيام بذلك ليبقى كتذكار دائم لما فعله الله في زمن الخروج، حين نجى أبكار اليهود (راجع سفر الخروج 13: 11- 16).
من المهم أن نلاحظ بأنه ليس من الضروري أن تقام هاتين التقدمتين أي تطهير الأم ونذر الابن في الهيكل. ولكن مريم ويوسف أرادا أن يقوما بذلك في أورشليم، ويجعلنا القديس لوقا نرى كيف أنه لا يركز على مشهد الهيكل فحسب بل على يسوع الذي يدخل الهيكل. وبالتحديد بحسب ما تنص عليه الشريعة، يصبح الحدث الرئيسي شيء آخر، ألا وهو “تقديم” يسوع في هيكل الرب، مما يعني تقديم الابن العلي للآب الذي أرسله (راجع لوقا 1: 32، 35).
تؤكد كلمات النبي ملاخي التي سمعناها في القراءة الأولى على ما كتبه لوقا الإنجيلي: “هانذا ارسل ملاكي فيهيء الطريق امامي و يأتي بغتة الى هيكله السيد الذي تطلبونه و ملاك العهد الذي تسرون به هوذا ياتي قال رب الجنود و من يحتمل يوم مجيئه و من يثبت عند ظهوره لانه مثل نار الممحص و مثل اشنان القصار فيجلس ممحصا و منقيا للفضة فينقي بني لاوي و يصفيهم كالذهب و الفضة ليكونوا مقربين للرب تقدمة بالبر” (سفر ملاخي 3: 1، 3). نحن بوضوح لا نتكلم هنا عن طفل ومع ذلك تحققت هذه الكلمات بيسوع، لأنه وبفضل إيمان والديه، تم جلبه “فورا” الى الهيكل؛ وفي فعل “تقدمته”، أو “تقدمة ذاته” الى الله الآب، يشع موضوع التضحية كما ذكر في سفر ملاخي. إن يسوع الطفل الذي قدم على الفور في الهيكل، سيكون ذاك الشاب الذي سينقي الهيكل (راجع يوحنا 2: 13- 22؛ مرقس 11: 15، 19) وفوق كل ذلك سيكون هو الذبيحة وكاهن العهد الجديد.
هذا مذكور أيضًا في الرسالة الى العبرانيين، التي قرئ مقطع منها في القراءة الثانية، لتعزيز موضوع الكهنوت الجديد: إن الكهنوت الذي افتتحه يسوع المسيح هو كهنوت وجودي: “ولأنه قد ابتلي هو نفسه بالآلام، فهو قادر على إغاثة المبتلين.” (العبرانيين 2: 18). ونرى هنا أيضًا موضوع المعاناة، الواضح جدا في المقطع الذي يلفظ فيه سمعان الشيخ نبوءته حول الطفل والأم: “ها إنه جعل لسقوط كثير من الناس وقيام كثير منهم في اسرائيل، وآية معرضة للرفض. وأنت سينفذ سيف في نفسك لتنكشف الأفكار عن قلوب كثيرة.” (لوقا 2: 34- 35). إن “الخلاص” الذي يجلبه يسوع لشعبه، والذي يجسده في نفسه، يمر بالصليب، يمر بالموت العنيف الذي سيتغلب عليه وسيحوله مع تضحيته بحياته في سبيل المحبة. تم الإعلان عن هذه الذبيحة مسبقا خلال التقدمة في الهيكل، التي أقيمت وفقا لتقاليد العهد القديم، ولكن المحرك الأساسي لها كان ملء الإيمان، والمحبة اللذين ينتميان لملء الزمان، لحضور الله وروحه القدوس في يسوع. كان الروح القدس في الواقع، وطوال مشهد تقدمة يسوع في الهيكل، يرفرف فوق شخص سمعان الشيخ وحنة. هذا الروح، “الباراقليط” الذي يجلب الخلاص لاسرائيل ويقود خطى وقلوب الذين ينتظرونه. إنه الروح الذي أوحى كلمات النبوءة لسمعان الشيخ وحنة، كلمات تسبيح لله، وإيمان بالذي كرسه، وكلمات شكر لأنهما عاينا “خلاصه”وحملته أيديهما (راجع 2: 30).
“نورا يتجلى للوثنيين ومجدا لشعبك اسرائيل” (2: 32): هكذا يعرف سمعان الشيخ المسيح الرب في نهاية كلمات تسبيحه. إن موضوع النور الذي يرافق النشيد الأول والثاني لخادم الرب في أشعيا الثاني (راجع أشعيا 42: 6، 49: 6)، متواجد بقوة في هذا القداس. في الواقع افتتح هذا القداس مع اقتراح مسيرة يحمل فيها الرؤساء العامين الممثلين هنا من معاهد الحياة المكرسة، شموعا مضاءة. هذه العلامة الخاصة بهذا العيد معبرة جدا. هي تظهر جمال الحياة المكرسة وقيمتها كانعكاس لنور المسيح، علامة تذكّر بدخول مريم العذراء الى الهيكل: إن العذراء مريم، وهي الشخص المكرس بامتياز، حملت النور بنفسها بين يديها، الكلمة المتجسد، الذي أتى ليبدد ظلمات العالم بمحبة الله.
أيها الإخوة والأخوات المكرسين، أنتم جميعكم ممثلون في هذا الحج الرمزي، كما تعبر سنة الإيمان أيضًا عن تعلقكم بالكنيسة وثباتكم بالإيمان وتجديد تقدمة ذاتكم لله. أنقل لكل واحد منكم، ولكل مؤسسة، تحياتي الحارة وأشكر حضوركم جميعا. فأنتم وعلى ضوء المسيح ومن خلال عدة مواهب تأملية ورسولية تساهمون في مهمة الكنيسة في العالم. في هذه الروح من الشراكة والشكر، أود أن أقدم ثلاث مقترحات لكم لتتمكنوا من الدخول بشكل كامل من “باب الإيمان” هذا المفتوح لأجلنا دائما (راجع “باب الإيمان” 1).
أدعوكم أول
ا لتغذية إيمان يكون قادرا على إنارة دعوتكم. أحثكم أيضًا بهذا الخصوص أن تتذكروا في عقولكم، كحج داخلي، “الحب الأول” الذي أدفأ به الرب يسوع قلوبكم، ليس من باب التذكر فقط بل بدافع تغذية هذا اللهب. لهذا السبب من الضروري أن نبقى معه، في صمت العبادة، وبهذه الطريقة نعيد احياء ارادة فرح مشاركة الحياة، والقرارات، وطاعة الإيمان، ونعيم الفقراء، وجذرية الحب. بالبدء دائما من لقاء الحب هذا، فتتركون كل شيء لتكونوا معه، ومثله، وتضعون أنفسكم في خدمة الله والإخوة (cf. John Paul II, “Vita consecrata,” 1).
أدعوكم ثانيا لأن تعيشوا ايمانًا يعترف بحكمة الضعف. في أفراح ومعاناة الوقت الحاضر، عندما تشعرون بالصعوبات وبثقل الصليب، لا تشكوا بأن إفراغ ذات (kenosis) المسيح هو الانتصار الفصحي. نحن مدعوون ضمن حدودنا وضعفنا البشري بأن نعيش على مثال المسيح، بطريقة تحقق بوقت قصير الكمال الأخيري الإسكاتولوجي (المرجع نفسه 16). في مجتمع يضم الفعالية والنجاح، تصبح حياتكم المتسمة بالتواضع والضعف إزاء الصغار، والتعاطف مع أولئك الذين لا صوت لهم علامة انجيلية فارقة.
أخيرا، أدعوكم لتجديد الإيمان الذي يقودكم كحجاج نحو المستقبل. فالحياة المكرسة بطبيعتها هي حج للروح في بحث عن “الوجه” الذي يظهر ويخفي نفسه:“Faciem tuam, Domine, requiram” أي “وجهك يا ربي أطلب” (مز 27: 8). هذا هو الشوق المستمر لقلبكم، المعيار الأساسي الذي يوجه مسيرتكم، سواء في الخطوات الصغيرة لحياتكم اليومية أم في اتخاذ أهم القرارات. لا تنضموا للأنبياء الدجالين الذين يقولون أنه لا يوجد معنى لحياة الكنيسة المكرسة وهناك نهاية لها في زمننا. بل، تسلحوا بيسوع المسيح سلاح النور، كما يقول القديس بولس في رسالته الى أهل رومة 13: 11- 14، وابقوا متنبهين،ويقظين. كتب القديس : كروماتيوس من اكويليا: “فليزل الرب هذا الخطر منا كي لا نخلد أبدا لنوم الكفر، ولكن فليمنحنا نعمته ورحمته لنستطيع دائما أن نكون أمينين له” (Sermon 32, 4).
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، إن فرح الحياة المكرسة يمر بخاصة في مشاركة يسوع صليبه. هكذا كانت الحال أيضًا مع مريم الكلية القداسة. معاناتها هي معاناة القلب المتحد بالكامل مع قلب ابن الله، المجروح من أجل المحبة. من هذا الجرح ينسكب نور الله، والنور نفسه الذي يبشر الأمم ينسكب أيضًا من معاناة وتضحيات الأشخاص المكرسين ومن بذل ذاتهم، هم الذين يعيشون لمحبة الله والآخرين. أصلي في هذا العيد بشكل خاص لأجلكم أنتم الذين تعيشون هذه الحياة المكرسة لكي تتحلى حياتكم دائما بالجرأة الإنجيلية بأن البشرى السارة تحيا بكم، وأنتم تشهدون لها، وتعلنونها وتبينونها ككلمة الحق (راجع باب الإيمان 6.).
امين.
***
نقلته الى العربية نانسي لحود – وكالة زينيت العالمية
جميع الحقوق محفوظة لدار النشر الفاتيكانية