الخبر بات أشهر من نار على علم. هذه المقالة لا تصبو الإعلام بل التحليل. سأجيب على هذه الأسئلة: لماذا اعتزل البابا خدمته كأسقف روما وخليفة بطرس؟ هل يحق له كنسيًا القيام بذلك؟ هل هذه سابقة تاريخية أم هناك من سبق بندكتس السادس عشر على ذلك؟ أين سيقيم البابا؟
الجواب على السؤال الأول قد يُخيب فضول البعض. فمن خلال تصفح صفحات الانترنت وشبكات الاتصالات الاجتماعية تجد نفسك أمام تحاليل تثير غيرتك لسبب واحد: لا، ليس الصحة، بل المخيلة. مخيلات جياشة تصوغ قصصًا دون أي ارتباط بالواقع. هناك من يقول أن البابا قدم استقالته بسبب ضغوط كثيرة تلقاها. بعض آخر يقول أنه اعتزل بسبب كثرة المشاكل التي تقض مضجعه، إلخ إلخ. ولكن، كما أشرت، كل هذه التحاليل لا تمت إلى الواقع بصلة، أقله لا صلة متينة وموثوقة.
إذا أردنا الإجابة على السؤال الاول بشيء من الموضوعية، لا بد لنا أن ننطلق من كلمات الأب الاقدس عينه. علمًا بأن قرار البابا فاجأ الجميع، بما في ذلك مدير دار الصحافة التابعة للكرسي الرسولي، الأب فيديريكو لومباردي، وعميد مجمع الكرادلة الكاردينال أنجلو سودانو.
ماذا نستنتج من كلمات البابا؟
تحدث بندكتس السادس عشر بجدية واقتضاب نموذجيين عن أسباب قراره. وشرح قداسته باللاتينية أن القرار لم يأت فجأة، بل نتيجة لفحص ضمير مطول وكثمرة لحوار مطول مع الرب. قال البابا: “لقد فحصت ضميري أمام الله مرارًا وتكرارًا، وتوصلت إلى اليقين بأن قواي، بسبب تقدمي في السن، لم تعد مناسبةً للقيام بشكل مناسب بالخدمة البطرسية”.
قد يقول البعض: “ولكن، ألم يكن وضع يوحنا بولس الثاني مماثلا؟ ألم يكن عجوزًا، مريضًا، مرهقًا، إلخ؟ إلا أن البابا فويتويا كان مقتنعًا بأنه لا يجب النزول عن الصليب، وذلك بحسب تصريحات أمين سره الشخصي دجيفيتش”. إن نظرة بندكتس السادس عشر التي تقبل وتحترم رؤية يوحنا بولس الثاني وتعترف أن الخدمة البطرسية لا تتم فقط “بالأفعال والكلام، بل أيضًا بالألم والصلاة”، تنظر إلى الأمر من وجهة أخرى.
بحسٍ رعوي مرهف، ينظر البابا – الذي قاد سينودس التبشير الجديد والذي أعلن سنة الإيمان – إلى وضع الكنيسة الحالي في عالم يعيش “تحولات سريعة ومسائل كبيرة وَقعُها كبير على حياة الإيمان” ويقر بأن الكنيسة بحاجة لزخم ملموس جسدي ونفسي، ويعترف بتواضع ووضوح رؤيا لطالما ميزاه إلى وضعه الحقيقي ويقر بأن قوته قد تضاءلت في الأشهر الأخيرة.
يأخذ البابا قراره حبًا بالكنيسة لا خوفًا من المهام المترتبة على كتفه. يمكننا أن نقرأ عمله هذا كفعل تواضع شجاع، كفعل حرية روحية كبيرة. كم من السياسيين والرعاة لا يتحلون بهذه الحرية، حرية التنحي عندما يجدون أنهم لم يعودوا مناسبين للقيام بالنشاط الموكل إليهم؟
هذا وإذا ما نظرنا إلى سيرة يوسف راتزنغر في السنين الاخيرة، وفي السنين التي سبقت انتخابه لعلمنا بأنه كان يريد التنحي عن منصبه كعميد مجمع الإيمان لكي يعتزل للبحث والصلاة، إلا أن البابا حينها – يوحنا بولس الثاني – لم يقبل طلبه.
هل يحق له كنسيًا القيام بذلك؟
نعم. يحق للبابا التنحي عن منصبه، وهذا أمر ينص عليه القانون الكنسي. إن المواد 331 – 335 تتحدث عن الحبر الأعظم، السلطة العظمى في الكنيسة. وفي المادة 332 البند الثاني نقرأ ما يلي: “إذا حدث أن تخلّى الحبر الـروماني عن منصبه، يلزم لصحّة التخلّي أن يتمّ بحرّية ويُعلَن عنه كما يجب، لكن لا يلزم أن يقبله أحد”.
قرار البابا بالاعتزال هو قرار يعود له وليس هناك من يستطيع أن يرفض استقالته. وهناك شرطان وحيدان لصحة هذا التخلي: الحرية والإعلان. وبندكتس السادس عشر قام بذلك اليوم بحضور الكرادلة وعلى أنظار العالم.
هل هي المرة الأولى في تاريخ الكنيسة؟
قال الكثيرون بأن هذه المرة الأولى في تاريخ الكنيسة. هذا الأمر غير صحيح. هناك أربع حالات مؤكدة، أشهرها تخلي البابا سلستينوس الخامس في عام 1294. هذا التخلي هو شهير لأن دانتي يتحدث عنه في “الكوميديا الإلهية”. أما الحالات الأخرى المؤكدة تاريخيًا فهي: البابا بندكتس التاسع (1045)، البابا غريغوريوس السادس (1046) والبابا غريغوريوس الثاني عشر (1415).
أين سيقيم البابا؟
شرح مدير دار الصحافة التابعة للكرسي الرسولي، الأب فيديريكو لومباردي أن بندكتس السادس عشر سينتقل أولاً إلى كاستل غاندولفو ومن ثم، بعد انتهاء أعمال الترميم، إلى دير راهبات حبيسات في الفاتيكان.
سيترك البابا إدارة الكنيسة الزمنية ولكنه وعد في كلمته أن سيتسمر بالصلاة لأجل الكنيسة التي أحبها ولطالما خدمها.