فما هو الحكم القانوني لهذا القرار الجريء بالتنحي عن واحد من أهم المناصب في العالم وعبر التاريخ المديد ؟ قانونياً، فالحق القانوني، وهو الكتاب الجامع لقوانين الكنيسة، نصّ في القانون رقم 332 على أنه «يجوز للحبر الأعظم تقديم الاستقالة عن أداء مهامّه، شرط أن تكون بمحض ارادته، وأن تعلن بشكل ظاهر، وألا ينتظر موافقة أحد عليها». الأمر جائز اذا لكنّه ليس بالأمر الهيّن، نظراً لخصوصية الهويّة التي يتمتع بها الحبر الأعظم: فهو رأس الكنيسة الكاثوليكية وخليفة القديس بطرس وأسقف روما وأساس الوحدة التي تربط الأساقفة الذين بدون البابا لا سلطان لهم، وهو يملك السلطة الكاملة العليا والشاملة ويستطيع ممارستها بحرية في جميع الحالات. كما أنّه صاحب السلطات الثلاث في الفاتيكان: التشريعية والتنفيذية والقضائية.
بدون شك ، ان السن الذي وصل اليه البابا هو السبب الظاهري الرئيسي لهذا القرار الشجاع، فلم يقدم أحد قبله عليه ، واراد البابا بهذا القرار أن يوصل رسالة الى العالم ، مفادها انّ السلطة ليست تسلطا ولا احتكارا ، فهو بتاريخ 19 نيسان 2005 حين تم اختياره ، قد شكر الكرادلة الذين انتخبوه، قائلا امام العالم : “شكرا لهم لانهم اختاروني عاملا بسيطا ومتواضعا في حقل الرب الفسيح” . واليوم وبعدما أنهى اكثر من سبع سنوات في هذا العمل ، لربّما يؤسس لقانون جديد ، يبدأه هو بنفسه ، وهو ان يستقيل البابا بعد بلوغ الخامسة والثمانين مثلا ، مثلما يسقيل الاساقفة على عمر خمسة وسبعين عاما.
مهما يكن من نية من هذا الامر ، ان المسيحية تنظر الى السلطة كخدمة ، لا أكثر ولا أقل ، وهي تريد ان توصل هذه الرسالة الى القيادات الدينية اولا والى القيادات المدنية والسياسية ثانيا ، ان القيادات بحاجة الى قوة جسدية ومعنوية ، كما يقول البابا في رسالة الاعلان عن استقالته، وبالتالي ، فانه ولما شعر بان قواه تضعف بسبب السن المتقدمة ، تقدم وبكامل وعيه واختياره من هذا القرار المهم . متفرغا لخدمة الكنيسة بما تبقى له من عمر من خلال حياة الصلاة .
لا يسعنا في هذه العجالة الا ان نشكر البابا الذي يقدم لعالم اليوم درسا بليغا في التخلي عن السلطة وعدم التمسك بالكراسي . ولنا ان نتنبأ هنا بان التاريخ سيذكر بندكتس السادس عشر كواحد من أعظم البابوات ، لا بل الشخصيات القيادية في العالم التي استطاعت وبدون أي طلب من أحد، ان تتخلى عن السلطة راضية مرضية ، لان السلطة خدمة وليست تسلطا او احتكارا . وبالرغم من التأثر الذي سيحصل مع ابناء عديدين من ابناء الكنيسة على هذا التنحي المفاجئ الا انّهم سيجدون به مثالا رائعا في التجرّد والتنزّه عن مفاتن الدنيا ومغريات التمسك بالكراسي البرّاقة.
قداسة البابا ، شكرا لهذا الدرس البليغ…
مدير المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام