إلى إخوتي الكهنة الأحباء والراهبات الفاضلات،
وأبناء الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية في أبرشية الإسكندرية،
وإلى المؤمنين أبناء الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية،
“لا من أحدِ يعرف الآب إلاَّ الابن، ومن شاء الابن أن يكشفه له”(متى 27:11).
“إن الله ما رآه أحدٌ قط، الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه”(يوحنا 1: 18). وما كشفه لنا كافِ لنحيا السرّ، ويحلّ في “قلوبنا بالإيمان”(أفسس 3: 17)، “نحن نؤمن ولذلك نتكلّم”(2 قورنتس 4: 13)، نتكلّم على الإيمان. والرّوح يكلّمنا من خلال مطالعتنا الكتاب المقدّس، حتى نزداد إيماناً، ومع الرسل نقول للرّب: “زدنا إيماناً”(لوقا 17: 5).
أيها الإخوة والأبناء الأحباء:
الإيمان هو “قوام الأمور التي تُرجى وبرهان الحقائق التي لا تُرى” (عبرانيين 11: 1).
يوم الأحد 16 أكتوبر / تشرين الأول 2011 أعلن قداسة البابا بندكتس السادس عشر عن افتتاح “سنة الإيمان” التي ستبدأ يوم الخميس 11 أكتوبر / تشرين الأول 2012 وتنتهي يوم الأحد 24 نوفمبر / تشرين الثاني 2013. يعود سبب إعلان سنة الإيمان لمناسبتين كبيرتين في حياة الكنيسة.
المناسبة الأولى: الذكرى الخمسون لإفتتاح المجمع الفاتيكاني الثاني (الخميس 11 أكتوبر / تشرين الأول 1962) برعاية قداسة البابا الطوباوي يوحنا الثالث والعشرين (1958-1963) الذي قاد مسيرة المجمع الأوليّة ليترك لخليفته البابا بولس السادس (1963-1978) مهمّة اختتامه (الأربعاء 8 ديسمبر / كانون الأول 1965). يُعدّ هذا المجمع المسكوني في تاريخ الكنيسة من أبرز المجامع، حيث ناقش الأساقفة المشاركون فيه من شتى أنحاء العالم، مختلف القضايا المتعلقة في العالم المعاصر: المسكونية، الإصلاح الليتورجي، الحياة المكرّسة، العلاقات مع الأديان، وسائل الاتصالات وغيرها من القضايا الإيمانية التي أعطت للكنيسة روحاً جديدة.
المناسبة الثانية: الذكرى العشرون لإصدار كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية (الأحد 11 أكتوبر / تشرين الأول 1992)، بإرادة البابا الطوباوي يوحنا بولس الثاني (1978-2005) الذي وافق عليه من خلال الإرشاد الرسولي: “وديعة الإيمان“، ليكون مرجعاً لكل مسيحي يود التعمّق في إيمانه واكتشاف جماله وفقاً لتعاليم الكنيسة المقدّسة.
جاء كتاب التعليم المسيحيّ كثمرة ناضجة زرع بذرتها المجمع الفاتيكاني الثاني وبرغبة الأساقفة المجتمعين في روما عام 1985 ليكون وسيلة في خدمة التعليم المسيحي في الكنيسة.
إلى جانب توصية المجمع الفاتيكاني الثاني بعقيدة الإيمان، نسمع قداسة البابا بندكتس السادس عشر يحث الرعاة والمؤمنين على بذل قصارى جهدهم لتنمية التعمّق بالإيمان المسيحي.
وفي سينودس الأساقفة الخاصة بالكرازة الجديدة، الذي انعقد في شهر أكتوبر / تشرين الأول 2012 المنصرم، دعا الأباء الأساقفة الكنائس إلى مسيرة روحية متجدّدة وشهادة للمسيح في عالم متغيّر يحتاج إلى بشارة جديدة، أمينة لتراثها المتنوعة الثرية والغنية، جاهدةً في نقلها إلى الأجيال الصاعدة بحلّة جديدة متألقة تتجاوب مع تطلّعات الألف الميلادي الثالث، وبدعوة المؤمنين وخاصة الشبيبة منهم إلى التعمّق بالإيمان والإلتزام بالتعليم المسيحي.
ولما كانت مناسبة سنة الإيمان 2012-2013، فرصة لترسيخ حياتنا على المسيح النور والحق والحياة، والتجاوب مع دعوته إلى الكرازة الجديدة، عزمنا النيّة على كتابة هذه الرسالة الراعوية، آملين أن توقظ المؤمنين إلى التعمّق بإيمانهم والإرتباط بكنيستهم والقيام برسالتهم. راجياً أن تكون هذه الرسالة هبة إيمانٍ ورجاء في كنائسنا ورعايانا ومؤسساتنا ولجاننا وعائلاتنا، وفتح آفاق للقاء مسيحي بين الكنائس، وحوار أخوي مع الأديان الأخرى ولا سيما الإسلام، والتزام جديد من كنيسة بطريركية الإسكندرية للأرمن الكاثوليك بسائر الكنائس الشقيقة بمصر والعالم.
المسيح فتح لنا باب الإيمانورسم لنا الطريق المؤدي إليه وتحقيقه فينا، ويشهد كل مسيحي شهادة حيّة للإيمان والخلاص.
· هـدف سـنة الإيمــان
هدف هذه السنة جانباً إلى التعمّق في إيماننا المسيحي، واللقاء الشخصي بيسوع المسيح مبدأ إيماننا وطريقنا إلى الله الآب بالرّوح القدس، إعادة اكتشاف طريق الإيمان من أجل إحياء فرح اللقاء بالمسيح يسوع والغيرة على الشهادة له ولمحبّته.
لذا ندعوكم للتأمُل لأخذ مبادرات للتعمق في مبادئ إيماننا، إنطلاقاً من إله إيماننا يسوع المسيح، كلمة الله المتجسّد ومحور تاريخ البشرية. فلا بد من التركيز على قراءة الكتاب المقدّس، والتعمّق في العقائد المسيحية، وبخاصة سرّ الثالوث الأقدس، والتجسّد، والفداء، والتقديس، والصلاة، وفي أسرار الكنيسة السبعة، وفي وصايا الله والحياة الأخلاقية، وتعاليم الكنيسة والأباء القديسين.
يُخبر المفكّر الفرنسي جان جيتون Jean Guiton أن الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران قصده يوماً ليطرح عليه موضوع الإيمان، وألحَّ عليه أن يكون الجواب موجزاً لأن الوقت قصير. أجابه المفكّر الفيلسوف: كانت أمي تقول لي، وأنا في سن المراهقة: “يا بنيَّ على الإنسان أن يكون ذكيّاً لكي يؤمن”. فلم أفهم كلامها كل الفهم، إلاَّ لما دخلت الجامعة وتبيّن لي أن الإنسان مشدود بين قطبين:
إمّا العبث l’Absurde أي اللا معنى، وإمّا السرّ le Mystèreالذي فيه معنى ندركه ولا نراه، إنمّا نختبر منه ما كشف
لنا.
فالإنسان الذكي هو الذي يفضّل المعنى على اللا معنى. ولهذا يؤمن.
الإنسان الذكي هو الذي يعرف ما يختار. فأنتم يا أحبّائي أذكياء، تسعون إلى السرّ العميق مُلبّين دعوة الذي هو في السرّ.
لماذا تستغربون عندما نستعمل كلمة سرّ في الحديث عن الله، ولا تستغربونها في الحديث عن الإنسان؟
أليس في الإنسان سرّ عميق؟ فأنتم لا تكتشفـون ما في فكره وقلبه إلاَّ بعد ما يكشفـه هـو لكم. كذلك الله: “إن الله ما رآه أحد قط، الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه”(يوحنا 1: 18).
نتكلّم عن الإيمان، والرّوح القدس يكلّمنا حتى نزداد إيماناً ونتعمّق به ونتكلّم ونعظْ ونُعلِّم.
· الإيمــان معنى لحياتنــا
ما يميّز الإنسان المسيحي هو إيمانه. الإيمان بالمسيح ابن الله وابن الإنسان، المسيح المخلّص المصلوب والقائم من الموت، المسيح الحيّ في كنيسته من أجل إحلال ملكوت الله بين البشر بالمحبّة. ولكن ما هو هذا الإيمان المسيحي؟
يقول بعضنا: “أنا أؤمن”، وبعضنا: “أنا فقدت إيماني”، أو: “أنا اكتشفت إيماني”، وآخر يقول: “إيماني ضعيف”… وكثيرون يتكلّمون عن إيمان حيّ، وعن إنسان يحيا إيمانه. جميع هذه الطرق في الحديث عن الإيمان دلالة على أنه جوهري في حياة الإنسان.
فالإيمان في حقيقته إلتزام يشمل عقل الإنسان وقلبه أي نواياه وإرادته. الإيمان موقف تجاه الواقع والحقيقة. الإيمان إذاً، معنى للحياة عامةً ولحياتنا خاصة. فالإنسان لا يعيش فقط من خبز عمله التقني بل من الكلمة، والحبّ، والمعنى. إلى هذا يستند وجودنا وكياننا.
نحن نقبل من الرّب بواسطة الكنيسة الإيمان لآنه أُعطي لنا حقاً. إنّي أؤمن كمسيحي يعني أنا أستسلم للمعنى الذي يحملني والذي يحمل العالم أيضاً. أن أنظر إليه كما إلى صخرة صلبة عليها أرتكز دون خوف لأنه صخرة إيماني ورجائي.
أُؤمن كمسيحي، هذا يعني أن أجعل من وجودي، من حياتي، من كياني جواباً للكلمة المتجسّد يسوع المسيح، كلمة الله التي هي أساس ومرتكز كل شيء.
أُؤمن كمسيحي، هذا يعني أن أقرّ بأن عطية الله ومواهبه تسبق عملي. فلأن قبلنا عطيه الله ومواهبه يمكننا أن نعمل… فالإيمان المسيحي يعطي أهمية أكبر لحقيقة اللا منظور على ما هو منظور.
أن كلمة “آمين” هي صدى لكلمة “أُؤمن“.
آمين يعني: “ليكن”.
آمين يعني: “إنّي أثق”، “إنّي أتّكِل وأضع رجائي”.
آمين يعني: “نعم، حقيقة، هذا حقّ، هذا صحيح”.
آمين يعني: “أمانة، صلابة، أساساً متيناً”.
آمين يعني: “أن أكون واقفاً منتصباً لا ملتوياً، أي أن أكون حياً ونشيطاً وجاهزاً لعمل كل ما يطلبه منّي الرّب”.
ان ميزة الإيمان، وصفته، وطابعه الأكثر عمقاً هو انفتاح على كائن شخصي. فصيغة الإيمان الأساسية لا تقول: “إنّي أُؤمن بشيء ما”، إنّما تقول وتؤكد: “إنّي أُؤمن بك…”.
· الإيمــان لقــاء مع يســوع
الإيمان هو لقاء مع شخص، وهذا الشخص هو يسوع، وبهذا اللقاء يكتشف الإيمان أن معنى العالم هو إنسان، وهذا الإنسان هو شاهد لله، شاهد للحقيقة وبه يصبح غير المحسوس محسوساً، وغير الملموس ملموساً، والبعيد اللا متناهي يصبح قريباً للغاية. هذا الشخص هو حضور الأزلي ذاته في قلب العالم، به يتجلّى معنى الحياة ويصبح هذا المعنى حضوراً، أي حضور الله في العالم وفي الإنسان.
· الإيمــان حــوار مع الله ومع البشــر
الإيمان يولد من الكرازة، من السماع: “فإذا شهدت بفمك أن يسوع ربّ، وآمنت بقلبك أن الله أقامه من بين الأموات نلت الخلاص. فالإيمان بالقلب يؤدي إلى البر، والشهادة بالفم تؤدي إلى الخلاص…”. “كل من يدعو باسم الرب ينال خلاص. وكيف يدعون من لا يؤمنوا به؟ وكيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به؟ وكيف يسمعون به من غير مبشّر؟ وكيف يبشّرون إن لم يرسلوا؟ وقد ورد في الكتاب المقدّس: “ما أجمل أقدام المبشّرين… فالإيمان إذاً من السماع. والسماع يكون سماع كلام عن المسيح”.(رومة 9:10-17).
فالإيمان قبل كل شيء هو حوار ومشاركة، دعوة إلى وحدة العقول والأفكار في وحدة الكلمة. وبعد ذلك يفتح الإيمان المجال لكل إنسان ليقوم بمغامرته الشخصية مع الحقيقة. للإيمان طابع جماعي وهو خلق وحدة الأفكار في وحدة الكلمة، لأن الله لا يريد أن يأتي إلى الإنسان إلاَّ بواسطة الإنسان. فهو لا يفتش عن الإنسان خارج علاقته الإجتماعية والإنسانية. ولا يمكن للإنسان أن يقيم حواراً مع الله ولا يعرف أن يقيم حواراً مع الآخرين. والحوار الحقيقي يتم عندما يتبادل الأشخاص شعورهم وعواطفهم، حقيقتهم وخبراتهم، يتبادلون ذواتهم وأفكارهم.
· الإيمــان حريـــة
الإيمان هو حياة، وهو يعطي الحياة. إنه ليس روحاً ينطوي على ذاته إنّما هو تجسّد في التاريخ وفي المجتمع.
الإيمان المسيحي هو تخطي للذات، هو تحرر من الذات ووضع الذات في خدمة السامي.
وهذا السامي ليس من صنع أيدينا ولا من فعل ذكائنا.
الإيمان المسيحي هو أيضاً خيار تجاه الإنسان، يعترف بأن الإنسان هو كائن منفتح نحو اللانهاية.
المسيح هو كائن “يأتي من لدُن الآب” ويتجه بحريته إلى الإنسان ليخلّصه.
أكون مسيحياً، حسب إنجيل القديس يوحنا، يعني أن أكون كالابن، أن أصبح ابناً أي أن لا أستند إلى ذاتي، أن لا أدعي بأنّي أقوم بذاتي، بأني أنا مصدر ذاتي، أنا أصنع ذاتي، إنما أن أحيا كلّياً منفتحاً كالسيّد المسيح: “آتي من الآب… و
اتجه نحو الآب… لأستطيع التوجه نحو الآخرين “.
· الخاتمــة
الإيمان المسيحي هو انفتاح نحو الله، وهو نظرة إلى الأمام، واستباق للرجاء.
هو الرجاء الحقيقي بكونه يدخل في نظام: الله في العالم والعالم في الله.
الإيمان المسيحي هو هبة الرّوح القدس المجانية لكل إنسان يقبل سرّ المسيح الخلاصيّ ويلبّي نداءه.
خلال هذه السنة، المكّرسة للتعمّق في الإيمان وممارسته، لنتعاون مع عمل الرّوح القدس لتأليه الإنسان المؤمن ونموه ساعين مع الكنيسة إلى عيش شركة الثالوث الأقدس لإنماء الإيمان فينا وتعزيز حياتنا المسيحية في كل مراحل العمر تعزيزاً شاملاً، ونقويها بالغذاء الرّوحي اليومي، لنستطيع نقل الإيمان، وتلقين العقيدة المسيحية، وتهيئة الأسرار المقدّسة وممارستها ممارسة منتظمة، والتنشئة على الصلاة والإهتمام بالحياة الخلقية، لنكون حقاً جسد المسيح الواحد ونصبح شهوداً له تجاه الآخرين.
نطلب من العذراء مريم أم المسيح وأم الكنيسة أن ترافقنا طوال أيام حياتنا لنعيش بإيمان وسلام، سائلين الرّوح القدس أن ينوّر عقولنا، ويقود خطواتنا، ويبارك أعمالنا ليثبّتنا في الإيمان لخلاصنا ولنمو الكنيسة وازدهارها.