أصبح معلوماً بل واضحاً بل جلياً أمام سكان البسيطة بأسرها بأن بلداننا الشرق أوسطية تعيش مرحلة شديدة الخطورة والتوتر. كما أن الاقتتال الدائر بين الأخوة يثير قلق الجميع وبالخصوص أبناءنا المسيــــحيين والذين يسألون كل يوم: أين ومتى ستكون النهاية؟… في أي اتجاه نحن سائرون؟… مع مَن نتكاتف كي تُحمى
حقوقُنا ونِعَمُ حياتنا وأرباحُ أزمنتنا؟… مَن هم الذين يهتمون بنا أو يفتشون عن بقائنا؟… وهل هناك دول بعدُ تحبُّ بلداننا؟… وهل هناك مَن يحتاج بعدُ إلى شهاداتنا أو خبراتنا؟… هل هناك ثمّة مَن يُقيّم الحضارةَ التي بدأناها، والثقافةَ التي نشرناها، والتواصلَ الذي رسمناه في أوطاننا؟… وهل لنا بعدُ رسالةً وإسهاماً في عيش بشرى الحياة وإحلال السلام وبناء الأوطان في منطقتنا، أم أصبحنا غرباء، بل متفرجين، أم تقلّص دورنا إلى حدّ الضياع؟.
تساؤلات وأخرى
هذه التساؤلات وأخرى أمثالُها، حقائقُ معيشتنا ومسيرتنا، نُصبح بها ونُمسي عليها، إضافة إلى الحروب التي خضناها وإنْ كان النصرُ رايتَها، فالحروب في العمق ما هي إلا خسارة فادحة، وفشل إنساني أكيد، وأيضاً القتل والإرهاب، التهجير والتخويف، عبر مسيرة الطائفية والقومية، عبر العشائرية والقبلية، عبر الأنانية وتدمير الآخر في إبعاده وحصره في زاوية الزمن لغايات أنانية عبر أصواتٍ ميكروفونية وعنترية بل وعسكرية… إنها خطايا ولكنها في داخلنا غايات وحنايا كي نكون وإنْ لا يحق لنا!، والويل إنْ تجسدت هذه كلها بأسماء الدين المختلفة أو باسم الحقوق المسلوبة أو الحرية المزيفة، أو باسم الدكتاتورية المصنَّعة أو الرئاسة الوجهوية، إضافة إلى تحريم الأبرياء واتهام الفقراء الصامتين في عالم الصخب والفوضى، عالم الغدر والظلم، عالم المصالح والمناصب، عالم الضياع، عالم الأنا وتدمير الآخر، عالم الحركات الأصولية والغايات السياسية والنوايا الديموغرافية المتعددة الأشكال والمآرب والمسالك والطرق والسياجات، عالم الأفاعي والحيتان، عالم السيّئات والفساد باسم الطيّبات والحسنات… في هذه كلها تكمن مسيرة الحياة.
وقفة حيرة
وأمام هذه علاماتِ الاستفهام وحقائقِ الزمن المخيفة، يقف المسيحي حائراً في أسئلة استجوابية أمام أخيه المسلم الذي تأصل معه في وطنه، ومرّ في حارته، وقاسى بسيطة زنكنته، وكان معه تحت لواءِ كلمةِ “سواء” دون وصية ولا وصاية. والحقيقة إن الحياة ما كانت لهما إلا حكايةَ حبٍّ ورسالةَ سلامٍ ومحبةٍ ولا أجمل.
رؤساؤنا يتفهمون
من المؤكد أن الكنيسة ورؤساءَنا الأجلاء يتفهّمون ما يحصل في بلداننا الشرق أوسطية، ويتفرّسون جيداً في حقيقة أوضاع أبنائهم المسيحيين. وكما هم في عالم القلق، هكذا هم أيضاً يدركون جيداً أن قلقَهم رسالةٌ مشروعة وحقيقة واقعة، وهم يؤمنون في نفس الوقت بأن ربَّنا يسوع المسيح أتى إلى أرضنا المشرقية المقدسة لينقذنا من هذا الألم الجاثم على صدر إنسانيتنا، ويعطينا أجوبة لهذه الأسئلة ولأخرى مثلِها، ومعلناً بأن حملَ الصليب التزامٌ ورسالةٌ، وإن الحياةَ صراعٌ. وبولس الرسول يدعونا “إلى أن نضع أمام أعيننا صورة المسيح المصلوب” (غلا 1:3). فهو الذي شجب الحقدَ والبغض، وعلّم الوداعة والتواضع، وأنّب المتكبرين والمتسلطين، وجعل من نفسه صرخةً إلهية تشهد لحقيقة الحياة من أجل إيقاف مسيرة الخطيئة وشرّها، فقال لبيلاطس:”لا سلطان لكَ إلا من الله” (يو11:19). إنها أسمى رسالة حملها إلينا إنجيل المسيح الفادي.
حقيقة الحياة
نعم، مسيرة المسيحيين طويلة وشاقة على مرّ الأجيال وحتى الساعة، كما أن مصيرَهم ما هو إلا مصيرُ معلّمهم الذي رسمه لهم. فالأشرار يعملون على تحطيم عزيمتهم وإرجاعهم وإبعادهم عن نهج مسيرة فاديهم يسوع المسيح الذي شجع تلاميذه:”يسلّمونكم إلى ضيق ويقتلونكم، وتكونون مبغَضين من الكل من أجل اسمي” (متى 9:24) و”مَن يثبت إلى المنتهى فذاك يخلص” (متى13:24)، “فاثبتوا وأعلنوا البشارة للخليقة كلِّها” (متى9:24). من هنا كانت انطلاقة قداسة البابا بندكتس السادس عشر إلى لبنان، صورةِ المشرق العربي بأرضه وشعبه بعد أن أدرك أن رئة الكنيسة الجامعة المشرقية في خطر أكيد وتحت تنفيذ مخطط ضياع وإفراغ كنائسنا وأوطاننا من عطاء إنجيلنا ومسيحيتنا.
قداسته بيننا
نعم، قصد قداسة البابا لبنان وبكل شجاعة دون خوف أو تزييف للحقيقة كي يؤكد أن بقاءَ المؤمنين في أراضيهم المشرقية وأوطانهم الشرق أوسطية ما هو إلا شهادةٌ لإنسانية الموهبة في الحياة، وشهادةٌ لرسالة الإنجيل في خلاص الجميع، وتعبيرٌ عن الحقيقة في عيش السلام والحوار، وما ذلك إلا التزام في قبول الآخر عبر الضمير المسيحي الحقيقي والصادق في أن يكون الإرشاد شاهداً لحقيقة الحياة… في هذا كلِّه أحسن قداسة البابا بندكتس السادس عشر قراءة مسيرة تاريخ مسيحيتنا في الشرق وقضية وجودنا فيه وهجران بلداننا، وأدرك أن الآتي قد يكون خطةً ممنهجة، منظَّمة، لتفريغ الشرق الأوسط من سكانه الأصليين حاملي اسم المسيح من أجل رسم خارطة جديدة لعالم قائين القاتل، لغاياتٍ ومصالحَ تدميرية، فأتى إلينا ليرينا أن القرارَ صعبٌ وتنفيذَه يحتاج إلى شجاعة إيمانية تقف عائقاً أمام مسيرة العولمة المزيَّفة وفروعِها القاتلة.
نعم”إن هذا الشرقَ وطنُكم، ومسؤوليتُه تعود إليكم، وخلاصُ مسيحييه يأتي من وحدتكم وشركتكم وشهادتكم، وليس اللهوُ والضياع في
تفاصيلَ صغيرة ومصالحَ انفرادية وغاياتٍ زمنية. فعين الفاتيكان براعيه وأحباره ومؤمنيه تملك نظرةً استراتيجية لهذا البُعد، وتنسج رأياً واضحاً بأهمية المسيحية المشرقية. فالحياة انتصار للأقوياء في نفوسهم لا الضعفاء.
الإرشاد … حوار
نعم، الإرشاد الرسولي مغامرة إيمانية رائعة بمحتواها، وشجاعة بتوقيتها، وإنسانية بالتفاتتها، ومسكونية بتعابيرها، وحوارية بأشخاصها، وبالخصوص إذا ما كان الحوار مع الذين تعايشوا منذ عقود وأجيال… إنهم الأخوة المسلمون، الأخوة المنتمون إلى عائلة المؤمنين بالإله الواحد. فبالحوار وتبادل الآراء بالحسنى تزول الفوارق وتتلاشى الأحقاد، ويرى كل إنسان في الآخر تتميماً له وليس نقيضاً. إنه يجعلنا نتخطى كافة التوترات بروح تفاهم ومثمر من أجل بناء أسس السلام الحقيقي الذي تنشده شعوبُ الأرض قاطبة. فهو ليس خياراً إضافياً، كما يقول قداسة البابا بندكتس السادس عشر، بل هو ضرورةٌ حيوية عليها يتوقف مستقبل وجودنا. ومن المؤكد أن هذه الحيوية لا يمكن أن تكون سهلةَ المنال أو خاليةً من الصعاب ولكن عبر صبرٍ لا حدود له، ومثابرةٍ يومية حياتية، لأن المسيحيين والمسلمين مدعوون جميعاً للمضي قُدُماً مهما اشتدّت الصعاب ومهما علت الأصوات في اغتيال الحقيقة ومن أجل إقامة أسس الحوار في خيارات كل إنسان وخاصة المتعلقة منها بالقيم الأساسية وبالقناعات الدينية الشخصية، وحتى يبزغ الفجر الذي فيه تقضي الرغبة في السلام إذ يقول قداسة البابا بندكتس السادس عشر في رسالته الرعوية “الله محبة”: لا يستطيع الإنسان أن يدّعي محبة الله بشكل مجرَّد دون أن يظهر ذلك بالقول والعمل محبة عظيمة للإنسان الذي يتعامل معه. فالحوار ينطلق بنا عبر الثبات في هويتنا المسيحية والكاثوليكية نحو الآخر لإقامة علاقات المحبة مع الذين يسكنون أرضنا، لأن إعلان كلمة الإنجيل هو حوار مع العالم، ومن حق كل واحد البحث عن الحقيقة ولكن حسب ضميره الشخصي والمسؤول.
قدسية الحياة
<p>يقول قداسة البابا بندكتس السادس عشر:”إن حياة كل كائن بشري مقدسة سواء للمسيحيين أو للمسلمين، وعلينا جميعاً مسؤولية كبيرة في تربية الأجيال الجديدة. كما يجب علينا معاً مسيحيين ومسلمين أن نواجه التحديات العديدة التي يطرحها زمننا، وأن نتبادل الاحترام والتقدير من أجل شهادة المحبة لخير جميع البشر” (البابا بندكتس السادس عشر في حديثه إلى الجماعات الإسلامية في الاحتفال بيوم الشبيبة في كولونيا بألمانيا، 18-21 آب 2006)… هذه المقولة المقدسة، خطة عمل وخارطة طريق، فهي تعلّمنا أن المسيحيين والمسلمين أخوة في الشرق المقدس، كما أنهم جزء أصيل في أوطانهم المشرقية المتعددة، وهم مواطنون يحملون حضارة إنسانية، مسالمون، شهود لحقيقة الحياة في أن تكون حقوقهم مصانة ولهم الحق في التعبير الإيماني مع حرية العبادة وممارسة الإيمان، عاملين من أجل أن تكون صفحات تاريخهم إنسانية الحضارة. ويقول قداسته في الإرشاد الرسولي:”على المسلمين والمسيحيين اكتشاف إحدى الرغبات الإلهية، أي الرغبة في وحدة وتناغم العائلة البشرية، وليكتشف في المؤمن الآخر أخاً يُحتَرَم ويُحَب كي يقدموا _ كل على أرضيته _ أولاً شهادة جميلة للصفاء والمودة بين أبناء إبراهيم. فلتكن معرفة إله واحد بالنسبة للمؤمن الحقيقي _ إذا تمّ عيشها بقلب طاهر _ دافعاً قوياً للسلام بالمنطقة والتعايش المشترك القائم على الاحترام بين أبنائها، وليس أداة تُستَغَل في إشعال الصراعات المتكررة وغير المبررة” (فقرة 19).
أخوّة واحدة
“كما إن المسيحيين والمسلمين أبناء وطن واحد وأخوّة واحدة، وهم جزء أصيل في هذه الأوطان وفي مسيرة واحدة وما يتخللها إنْ كان في السرّاء أم في الضرّاء، كانوا جيران أوفياء وأحبّة يتقاسمون في الآهات والهموم كما هو الشأن أيضاً في المشاكل والصعوبات، عبر إزالة الحواجز وتقريب الإنسانية والعمل من أجل حضارة المحبة في حوار مستديم واحترام أكيد. كما إن الكنيسة الكاثوليكية تنظر إلى المسلمين بأعين التقدير أمانةً لتعاليم المجمع الفاتيكاني الثاني، أولئك الذين يعبدون الله خصوصاً بواسطة الصلاة والزكاة والصيام، يكرمون يسوع كنبي دون الإقرار بألوهيته، ويكرّمون مريم أمّه العذراء، رغم أن هذه كانت قد شكّلت اختلافات عقائدية وللأسف ذريعة لدى هذا الطرف أو ذاك ليبرّر باسم الدين ممارسات التعصب والتمييز والتهميش وحتى الاضطهاد” (فقرة 23).
“وعلى الرغم من ذلك يتقاسم المسيحيون مع المسلمون الحياة اليومية نفسها في الشرق الأوسط، حيث وجودهم ليس عرضياً أو حديثاً إنما تاريخي. فالمسيحيون لأنهم جزءٌ لا يتجزأ من الشرق الأوسط أقاموا على مرّ العصور نوعاً من العلاقة مع محيطهم يشكل مثالاً يُحتذى به، وتفاعلوا مع تديّن المسلمين، وواصلوا عيش حياتهم وتعزيز قيم الإنجيل في ثقافة بيئتهم حسب إمكاناتهم وضمن حدود الممكن” (فقرة 24).
“إن المسيحيين يرغبون في مقاسمة خبراتهم مع المسلمين، مقدمين إسهاماتهم الخاصة”، و”إنهم حساسون تجاه كرامة الشخص البشري والحرية الدينية الناجمة عنها. فقد قام المسيحيون بدافع حبهم لله وللبشرية وممجدين هكذا طبيعة المسيح المزدوجة. كما يولي المسيحيون حقوق الشخص البشري الأساسية اهتماماً خاصاً لأنها حقوق تقتضي كرامة كل كائن بشري وكل مواطن مهما كان أصله وقناعاته الدينية أو خياراته السياسية” (فقرة 25).
خاتمة
إن أرضَ شرقِنا مرويّةٌ بدماء شهدائنا
، كما إنها مهدٌ للحضاراتِ والأديان، ومنها أخذنا هويّتَنا وإيمانَنا وحضورَنا في هذا الشرق حيث أرادنا الله، وهذا يقتضي منا الأمانة والتزام الشهادة لمحبته في عيش مبادئ الإنجيل والقيام بواجب الخدمة لمجتمعاتنا. ومهما تفاقمت الصِعاب علينا أن نكون شهود المحبة في الشراكة الإنسانية للشهادة للحياة. فما نحتاج إليه هو تشابك القلوب وذوبانها، وإلى انفتاح نحو رؤية مستقبلية بأن ربنا يسوع ليس مُلْكاً لنا بل هو لجميع البشر، فهو عيسى الحي الذي يقدّسه القرآن الكريم ويجلّه قائلاً:”والسلامُ عليَّ يوم ولدتُ ويوم أموتُ ويوم أُبعَثُ حيّاً” (سورة مريم 33).
وانطلاقاً من المبادئ التي يعلنها الإرشاد الرسولي في مسيرة الحوار المتواصل، عليّ أن أنحني مع أخي المسلم أمام راية المحبة، معلنَيْن تقاسمنا لحمل الحياة رغم المسيرة المؤلمة، وتكون هذه بدورها زاداً لمسيرتنا المشتركة الإنسانية والإيمانية والحياتية، وأن لا يكون الإسلام ضحية الافتراء والتشويه. فالتعدد في الديانات والقوميات والثقافات عامل غِنى وانفتاح، وكل دين يشهد لشيء مختلف، وكل واحد يعتزّ بدينه “لكم دينكم ولِيَ ديني” (القرآن الكريم؛ سورة الكافرون؛ 6)، وكلنا نشهد سوية ونتضامن في شجب العنف والإرهاب والعمل معاً في توطيد روح التضامن وإحلال راية السلام، ولا يمكن للعنف أن يتوافق وطبيعة الله ولا طبيعة النفس البشرية، بل الحوار الذي يساعدنا على البحث في دروب المصالحة والعيش ضمن احترام هوية الآخر.
فلنتقاسم الحياة، فما نحن إلا أخوة، مسلمون ومسيحيون… وما أجمل أن يحتذي الواحد بالآخر لغاية واحدة في احترامٍ أكيد لسبيلٍ واحد ولكلمة “سواء” واحدة. فــــ “باستطاعة الأديان أن تلتقي معاً لخدمة الخير العام وللمساهمة في تنمية كل شخص وفي بناء المجتمع” (فقرة 28)… إنها الإرشاد الرسولي… إنها رسالة الحوار الإسلامي _ المسيحي، “يعيش المسيحيون الشرق أوسطيون منذ قرون الحوار الإسلامي _ المسيحي، إنه حوار عبر الحياة اليومية ومن خلالها ويدركون غنى الحوار وحدوده” (فقرة 28)… إنه الشهادة للإنسانية والشراكة للحياة، هذا هو الإرشاد، إنه حوار لكلمةٍ “سواء”… نعم وآمين.