1. الملح والنور، يحدّدان هويّة تلاميذ المسيح ورسالتهم في المجتمع. إنّهما استعارتان من العهد القديم. فالملح يرمز إلى عهد الله مع البشر، ويقتضي إصلاح كلّ تقدمة وذبيحة للربّ بالملح (أحبار2: 3)، كعلامة للأمانة في العهد مع الله. والنور يرمز إلى الله، على ما جاء في نبوءة أشعيا: “استنيري، استنيري، يا أورشليم، لأنّ نورك أتى، ومجد الربّ أشرق عليك” (ـأشعيا60: 1)، وهو رمز لكلامه الهادي، كما نصلّي في المزمور: “كلامك مصباح لخطاي، ونور لسبيلي” (مز 118: 105).
لكنّ الملح والنور هما يسوع المسيح. هو الملح الذي جاء يصلح كلّ شيء كما أعلن على لسان يوحنا الرسول في رؤياه: “هاءنذا أجعل كلّ شيء جديداً” (رؤيا 21: 5)؛ وهو النور الذي لا تغشاه الظلمات”، على ما كتب يوحنا نفسه في مقدّمة إنجيله (1: 5).
هوية الملح والنور تأتي من المسيح وهي رسالتنا. إليهما يدعونا اليوم؛ لنكنْ على مثال أبينا البطريرك الأوّل، القديس يوحنا مارون، “ملح الأرض ونور العالم” (متى5: 13-14).
2. يسعدنا أن نحتفل معكم هذا المساء، في إكليريكية غزير البطريركية، بعيد القديس يوحنا مارون، البطريرك الأوّل على كرسي أنطاكيه وسائر المشرق، الرئيس والأب الأوّل لكنيستنا البطريركية المارونية، الذي انتخبه الأساقفة الموارنة، حسب التقليد سنة 685، عندما فرغ كرسي أنطاكيه من بطريرك كاثوليكي في الوحدة الكاملة مع خليفة القديس بطرس، أسقف روما وراعي الكنيسة الجامعة.
وشاءت إدارة هذه الإكليريكية، بشخص رئيسها الخوراسقف عصام أبو خليل والآباء معاونيه، وببركة سيادة المشرف عليها المطران جوزف معوّض نائبنا البطريركي، تكريم السادة المطارنة والآباء الكهنة الذين تفانوا في خدمتها، أثناء إدارتها السابقة. وهم إخواننا السادة المطارنة مارون العمّار، يوسف بشاره، أنطوان نبيل العنداري وأبناؤنا الآباء الكهنة: الخوراسقف انطوان مخايل والخوراسقف عبدو واكد، لويس البواري، جان جرماني، جورج عنتابي، مدلج تامر، هاني الريس، سمير بشاره، شربل دكاش. وشاءت أن تكرّم معهم الأستاذ جان مراد، رئيس رابطة قدامى الإكليريكية. فإنّنا والسادة المطارنة والآباء والكهنة والإكليريكيون وكلّ الحاضرين نضمّ شكرنا لهم مع صلاتنا إلى الله، لكي يكافئهم بفيض من نعمه وبركاته. ولا ننسى في شكرنا وصلاتنا الرعيل الأوّل والذي تلاه في الإكليريكية وإدارتها، السادة المطارنة رولان ابو جوده وبولس مطر وطانيوس الخوري ويوسف ضرغام وميشال عون، والخوراسقف وهيب الخواجه، ومن عاونهم من آباء وكهنة وعلمانيين، بالإضافة إلى راهبات العائلة المقدّسة المارونيات والكلّ بالبركة والتوجيه والعناية من صاحب الغبطة والنيافة ابينا مار نصرالله بطرس، أطال الله بعمره على صحة وخير.
3. ويسعدني أن أحيّي رئيس المجلس البلدي في بلدة غزير، المحامي الأستاذ والمربّي ابراهيم حداد، والسادة أعضاء المجلس والمخاتير ومجالسهم، وأبناء غزير الأحبّاء وبناتها، وكهنتها ورهبانها وراهباتها. وأشكركم جميعاً على الاستقبال المحبّ في ساحة البلدة، وعلى محبتكم وعاطفتكم وكلمة الترحيب الغنية بالمشاعر السامية. وقد انتهزتم لذلك بعفويتكم مناسبة زيارتنا للإكليريكية البطريركية القائمة على أرضكم الغنية بتراثها الكنسي والمدني، والتي أعطت طوباويّاً عظيماً أبونا يعقوب حداد الكبوشي، مؤسس راهبات الصليب الفرنسيسكانيات ودير الصليب وسواه من المؤسسات الإنسانية والتربوية، وأنا أسمّيها “جمهورية الألم والإنسان”. وإنّنا بالأسى والصلاة نذكر المرحوم المونسنيور الياس الخويري الذي خدم رعيتكم من 29 أيلول 1969 حتى وفاته في 11 كانون الثاني 2013، ثلاثاً وأربعين سنة من البذل والعطاء في خدمة الإنجيل. وقد نشرتم مشكورين كتاباً عن حياته وخدمته وإنجازاته بمناسبة الذكرى الأربعين في الأحد الماضي.
4. إنّنا نحيّي أبناءنا الطلّاب الإكليريكيين في كلّ من إكليريكية غزير البطريركية، وإكليريكية مار أنطونيوس البادواني في كرمسدّه التابعة لأبرشية طرابلس، وإكليريكية القديس أغسطينوس كفرا التابعة لأبرشية بيروت. ونحيّي معهم رؤساء هذه الإكليريكيات والآباء والمربّين والمعلّمين والمرشدين. ونعرب عن شكرنا وتقديرنا لسهر السادة المطارنة بولس مطر وجورج بو جوده وجوزف معوّض ومارون العمّار وبولس روحانا، على هذه الإكليريكيات توجيهيّا ومادياً وتنشئة.
5. كلام الربّ يسوع في إنجيل اليوميذكّرنا بهويتنا ورسالتنا. على مثال المسيح النبي والكاهن والملك. لقد جعلنا على صورته بالمعمودية والميرون ثمّ بالكهنوت، هو الملح والنور. إنّ الحياة في المدرسة الإكليريكية هي “الكينونة مع المسيح”، تماماً كما فعل الربّ يسوع مع تلاميذه الأول، إذ “دعاهم إليه ليكونوا معه”، ليحوّلهم على صورته، ليعطيهم هوية جديدة تصوّرهم في كيانهم الداخلي على صورته، ثمّ يرسلهم لإعلان إنجيل الخلاص.
أنتم أيّها الإكليريكيون طلّاب الكهنوت، تتنشّأون وتتربّون، بالروحانية والعلم والأخلاقية والحياة المنتظمة، على هوية “الملح والنور”، على مثال يسوع المسيح، هو الذي بشخصه وكلامه ونعمته وآياته وافعاله يصيّركم ملحاً ونوراً. وهنا، في ضوء هذه الهوية المزدوجة، تنفتحون على مساحات رسالة الكنيسة.
ونحن، أيها الإخوة في الأسقفية والكهنوت، صيّرنا الروح ال
قدس، بوضع اليد ومسحة الميرون، في كياننا الداخلي على صورة المسيح، اي ملحاً ونوراً، وسلّمنا سلطان رسالة الملح والنور في أبرشياتنا ورعايانا ورهبانياتنا ومؤسساتنا.
6. فكما الملح يعطي نكهة للطعام ويحفظه من الفساد، هكذا الإكليريكي والكاهن والأسقف مدعو ليعطي معنى لحياته ولحياة الناس، معنى للعائلة والمجتمع والتاريخ. ومدعو ليحفظ ذاته وإخوته ومجتمعه من فساد الانحراف الأخلاقي. والملح في الكتاب المقدّس رمز للحكمة. فكم نحن وعالمنا بحاجة إلى الحكمة، وهي أولى مواهب الروح القدس التي تنير حياتنا وسبيلنا، للسير تحت نظر الله، واستلهام أقوالنا وأفعالنا والمبادرات من منظار الله! ما أجمل ان نتبنّى شعار الطوباوي الأخ اسطفان: “الله يراني”.
وكما النور يشعّ في الظلمة ويبدّدها، وتنجلي في ضوئه الرؤية والقراءة والعمل والتحرّك، هكذا نحن الذين دُعينا إلى الكهنوت، إنّما دُعينا للإستنارة بنور المسيح، لكي ننير غيرنا بنوره في ظلمة الخطيئة والضياع، وفي ظلمة الفقر والحزن، وفي ظلمة الضعف والألم؛ ولكن أيضاً وخاصّة في ظلمة الكبرياء والاكتفاء الذاتي، وفي ظلمة الأنانية وعبادة الذات، وفي ظلمة المادية والاستهلاكية والاستغناء عن الله، وفي ظلمة الجهل والسطحية.
7. في سنة الإيمان، يدعونا قداسة البابا السابق بندكتوس السادس عشر للدخول من “باب الإيمان”، الذي هو المسيح، “مُبدئُه ومكمّلُه” (عبرا 12: 2)، لكي نلتقيه لقاءً شخصيّاً، فيبدّل نظرتنا وقلبنا ومجرى حياتنا، ويحقّق كلّ رغبات قلوبنا. وهكذا نتمكّن من الشهادة له، وفينا يقين بولس الرسول: “إنّي أعرف بمن آمنت” (2 طيم1: 12).
إنّنا في هذا المسعى نقتدي بأبينا القديس يوحنا مارون، الذي ساعده علمه الرفيع، في انطاكيه أوّلاً ثمّ في القسطنطينية، على تهذيب حياته، وفهم إيمانه والعيش بمقتضاه. فأصبح الكاهن المثالي في انطاكيه، والأسقف المتفاني في البترون، وبطريركاً أوّل لكنيستنا المارونية جسّد وجه المسيح “الراعي الصالح”. فأرسى أساسات كنيستنا البطريركية وإيمانها وليتورجيتها وروحانيتها، بما ألّف من كتب، وأسّس من كنائس، وجمع من شمل.
8. ولقد ترك لنا البابا بندكتوس السادس عشر مثالاً عظيماً في الإيمان وفي هوية الملح والنور. فميّزها بالبطولة في التفاني والتجرّد ونكران الذات. في سنة الإيمان التي افتتحها أعطانا الأمثولة الكبيرة في الإيمان المعاش. وإنّنا نعتقد أنّه لم توجد أي مسافة بين ما علّم هذا المعلّم الكبير وما عاش، أعني بين الإيمان والحياة، وانّه في ذلك بلغ ذروة التعليم. إنّنا نصلّي معاً لكي يحقّق الله أمنياته في تنحيّه عن الخدمة البطرسية، كأسقف روما، خليفة القديس بطرس الرسول. ونصلّي من أجل الكنيسة ليرسل إليها المسيح الربّ راعياً حسب قلبه، يقود سفينتها على هدي الروح القدس، لخلاص كلّ إنسان، ولمجد الثالوث القدّوس الآب والابن والروح القدس، آمين.