وهذا كله من الله، الذي صالح العالم بالمسيح، وعهد إلينا خدمة المصالحة،…
فنحن سفراء المسيح، وكأن الله يعظ بألسنتنا” (2قور5: 18–20)
ثم وجه حديثه الى الحضور مضيفا :
أيها الأحباء، أشكركم من أعماق القلب على حضوركم ومشاركتكم في هذه المناسبة الكنسية. ومعكم اشكر الرب على كل نعمه وبركاته.
وتساءل البطريرك الجديد : ماذا يعني أن يصير شخص بطريركا، أي “أبا ورئيسا”؟ بالنسبة للبعض هي ترقية أو منصب مرموق. قد يكون هذا صحيحا من جهة، لكن من جهة أخرى علمنا المسيح أن السلطة هي خدمة، ومن أراد أن يكون أولا فليكن آخر الكل وخادما للكل. لذا أن يصير شخص بطريركا يعنى التمثل بالرب يسوع، المعلم الصالح، والاقتداء به في حياته وتعليمه ولا سيّما في خدمته للإنسان، كل إنسان وكلِ الإنسان.
واكمل بقوله : لهذه الخدمة وبهذه الروح تم اختياري من الرب من خلال أخوتي أعضاء سينودس كنيستنا القبطية الكاثوليكية، الذين أشكرهم على محبتهم وثقتهم وتعضيدهم. أخص بالشكر غبطة أبينا الكاردينال الأنبا أنطونيوس نجيب، المتواجد حاليا ضمن مجمع الكرادلة بروما، لاختيار قداسة البابا الجديد، على كل ما قدمه للكنيسة من عطاء وخدمة وتضحيات دامت أكثر من خمسين عاما، في كل مجالات خدمته، وسيظل سندا لنا وللكنيسة. كما أتقدم بالشكر لنيافة الأنبا كيرلس وليم، مطران إيبارشية أسيوط، على كل ما قام به من خدمات وتضحيات جليلة لخدمة الكنيسة أثناء توليه مهمة المدبر البطريركي.
أمام اختيار الرب ودعوته وعلى مثال كل المدعوين في الكتاب المقدس، يشعر الإنسان بضعفه، وهذا ما شعرت به دوما في كل الخدمات التي أوكلها الرب إلي، وأمام هذا الاختيار بنوع خاص، شعرت بالرهبة والضعف أمام متطلبات هذه الخدمة. ولكن الرب أكد لي دوما أن نعمته لا تتركني، “ففي الضُعف يظهر كمال قدرة الله”(2 قور 12: 9). فما كان لي إلا أن أردد مع العذراء مريم “هاأنذا خادم للرب”. فقبلت إرادة الرب وشعرت وقتها بكلمات القديس بولس “وأعطانا خدمة المصالحة” تتردد في أعماقي، فأدركت أن الرب اختارها شعاراً لخدمتي.
غالبا ما ترتبط كلمة المصالحة بموقف التوفيق بين المتخاصمين أو المتنازعين، ولكن في قراءة متأنية وتأمل عميق لكلمة الله، نجد أنها تعني منهج حياة وتوجها عميقا وجذريا، فالمصالحة تعني بداية متجددة، أساسها الانفتاح على الآخر وقبوله بحب وبروح إيجابية.
هذا المعنى الحقيقي للمصالحة ينبع من حضور الله وعمل روحه القدوس، فبقدر ما يقترب الإنسان من الله ويمتلئ من نعمته، ينفتح على الآخرين ويفيض عليهم حبا وسلاما ورجاء وفرحا.
هذا ما جسّده الرب يسوع، من خلال حياته وتعليمه وتعاملاته وبصورة جذرية بموته وقيامته. لقد أعلن الحق دائما لكن بلا عنف ودون أن يهدم أو يجرح كرامة إنسان. كان هذا منهجه حتى بذل ذاته على الصليب حبا لكل البشر.
إن البطريرك الذي يحتفل به اليوم هو واحد منكم، أعشق تراب هذا الوطن، فعلى أرض مصر الطيبة ووسط شعبها النبيل نشأت في أسرة بسيطة مكافحة، ككل الأسر المصرية، روتني من نبع الأصالة وغرست فيّ روح الانتماء لمصر والاعتزاز بأهل بلدي وما يميزهم من شهامة وعزة نفس. أفرح لأفراحهم وتؤلمني ألامهم، أشاركهم كفاحهم، وتدفعني طموحاتهم لبذل المزيد من الجهد. هذه السمات لمستها في كل مكان خدمت فيه، ومع كل الفئات، في الفلاح البسيط الحكيم بفطرته، في المرأة المعيلة المكافحة، والعامل الأمين المبتكر، فالمصري قد ينحني ولكنه أبدا لا ينكسر.
وعن الشعار الذي اختاره البطريرك الجديد لخدمته قال غبطته :
اخترت شعاراً لخدمتي: “وأعطانا خدمة المصالحة”. لكن ماذا يعني هذا عمليا؟ إنه يعني بالنسبة لي مبدأين أساسيين، سنجاهد معا ،أنتم وأنا، بعمل الروح القدس، لتحقيقهما طوال فترة خدمتي.
– أولا بناء الإنسان: إن الإنسان هو محور اهتمام الله من قبل أن يخلقه. من اجله أبدع الكون والخليقة، أرسل الأنبياء وفي ملء الزمان أرسل ابنه الأوحد، الذي تجسد ومات وقام من أجل بناء عالم أفضل، فقد أعلن الرب يسوع: “أتيت لكي تكون لهم الحياة وتكون لهم أفضل”(يو 10:10). من أجل تحقيق هذه الغاية أسس المسيح الكنيسة، التي عليها أن تسعى دائما، على مثال معلمها الإلهي، لكي تكون حياتها وحياة مجتمعها أفضل دائما. هذه الحياة الأفضل تتحقق من خلال خدمة المصالحة، في كل علاقات الإنسان:
المصالحة مع الذات، والتي تساعد الإنسان أن يقبل ذاته فيكون في مسيرة ارتقاء نحو النضج والانسجام الداخلي، فيصير شخصية سوية، يساهم بروح المسؤولية في بناء عالم أفضل.
المصالحة مع الآخر، أتصالح مع الآخر فيكون له مكان في حياتي وخدمتي، فنساهم معا من أجل عالم أفضل.
المصالحة مع الله، يعيشها الإنسان في إيمان عميق يعطيه المعنى والقيمة لكل ما يقوم به، وهذا يتطلب تجددا دائما وحياة وفق وصايا الله ومحبة القريب.
يظل الإنسان محور اهتمامنا الأول، وعلينا أن نجاهد حتى لا نصبح ترساً في آلة، أو ضحية لضغوط اقتصادية ونفسية، تستهلك طاقاته وتمتهن كرامته الإنسانية. بل نحفظ له قيمته وكيانه ونقدر رسالته. لذا من الواجب العمل على تكوين الإنسان في كل مجالات حياته، والارتقاء به ثقافيا وروحيا وإنسانيا مع تنمية روح الإبداع في داخله. هذا هو السبيل نحو تحقيق “الحياة الأفضل”.
– ثانيا: خدمة المصالحة تعني أيضا البناء معا كفريق في روح
المصالحة والمصارحة: إن المصالحة كما هي ضرورة واحتياج هي أسلوب حياة وعمل، عمل يوحد القوى وينسق كل العناصر لبناء الجسد الواحد. يقول الرب يسوع في الإنجيل بحسب القديس متى “سمعتم انه قيل: “أحبّ قريبك وأبغض عدوك” أما منطق الله فيعلنه يسوع “أما أنا فأقول لكم : أحبوا أعداءكم.. فتكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات، فهو يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين.”(مت 5: 43-45)
هناك مثل دارج يقول: “أنا وأخويا على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب”. لا يتوافق هذا القول مع الفكر المسيحي. فالمبدأ المسيحي يعلمنا “أنا وأخي في خدمة ابن عمي وأنا وابن عمي في خدمة الغريب”. بل في خدمة كل إنسان، لان المحبة المسيحية تعلمنا انه ليس هناك غريب. فكل إنسان أخ لي في الخلق، وبالأخص الأكثر احتياجا لخدمتي ومحبتي. كم نحن في حاجة للوحدة والتضامن، وطنا ومجتمعا وكنيسة. نحن في حاجة إلى أن نجمع كل أفكارنا وطاقاتنا ومواهبنا من اجل بناء مشترك. به نمجد الله ونرتقي بكل إنسان.
نحن مكلفون ببناء ملكوت الله، بناء حضارة المحبة، التي تتجسد في إبداع وتبني وتنشيط مبادرات ومشروعات لصالح الجميع، وبالأكثر الفقراء والمهمشين والمرضى، لمحاربة الجهل والفقر والغربة التي نعيشها أحيانا حتى داخل أوطاننا وعائلاتنا، لمحاربة التحزب والأنانية، وبناء مجتمع القيم السامية والنبيلة من العدالة والحرية والكرامة الإنسانية، يشترك فيه أبناء الوطن الواحد بكل فئاته وأطيافه. فلكل إنسان غناه ومواهبه وما يمكنه أن يضيفه، لجماعته الصغيرة ولوطنه الكبير.
ان روح المصالحة لا يحتقر أحدا ولا يستهين بأحد ولا يستبعد أحداً ولا يهمش أحداَ، ففي الآخر أجد الله وأجد ذاتي. إن اخطر ما يهدد المجتمعات هو الانغلاق والاكتفاء بالذات ورفض الآخر، فكل شخص كنز فريد في ذاته بما له من قيمة ومعنى، حتى ذوي الاحتياجات الخاصة، فكم منهم صاروا طاقات أغنت العالم، ونماذج يتعلم منها الأصحاء. إن المصالحة التي تدعونا لاحترام وتقدير الجميع هي طريق المسيح والكنيسة و المجتمعات المتحضرة.
لقد خصّ الله كنيستنا الكاثوليكية بمصر بغنى وتنوع فريد في كهنة غيورين ورهبان وراهبات أسخياء وفي أنشطة رسولية مزدهرة، وعلمانيين محبين للكنيسة ومستعدين للعمل والخدمة، أدعو كل هؤلاء للعمل المشترك من اجل تنسيق الجهود وتوافق الرؤى والتكامل في العمل والاستفادة المتبادلة من كل الخبرات والملكات والمواهب لبناء جسد المسيح الواحد وخدمة وطننا معا.
كما انظر بعين التقدير والامتنان والشكر لله من اجل كل ما تقوم به الكنائس المصرية من نشاط وخدمة وتقارب فيما بينها، بمشاركة رؤساء الكنائس وبدعم ومباركة قداسة البابا تواضروس الثاني.
وتقديري العميق لإخوتنا المسلمين، شركائنا في الوطن، لقد صنعنا معا تاريخاً مشتركاً ويجمعنا مستقبل ومصير واحد، يدعونا لنوحد جهودنا فنجعله مستقبلاً مشرقاً ونموذجاً للتعايش المشترك المبني على المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات.
وتقديري أيضا للأزهر الشريف كمنارة للإسلام الوسطي والمعتدل ومساهمته من أجل لمّ شمل المصريين والتعايش المشترك.
في روح الإيمان والرجاء يمكننا أن نحقق الكثير معا. علينا ألا نستسلم لمشاعر الخوف والإحباط التي تكبلنا وتمنعنا من المبادرة والايجابية. فلا نخاف من بعضنا البعض بل على بعضنا البعض، فنحيا كأخوة أمام الله، ولا نخاف في وطننا بل نخاف على وطننا. ولا يسعى أحد إلى مصلحته الشخصية فقط بل إلى مصلحة الجميع.
وفي نهاية كلمته قال البطريرك الانبا ابراهيم اسحق : نصلي من أجل الكنيسة في العالم أجمع ولا سيما في مصرنا الحبيبة وفي شرقنا العربي لتظل الكنيسة نوراً وملحاً وخميرة. كما نصلي من أجل سلام العالم والبشرية جمعاء ولا سيما تلك الدول والبلدان التي تعاني من ويلات الحروب والمجاعات. نصلي من أجل رئيس الجمهورية وكل المسؤلين ليقودهم الله إلى ما فيه خير ونفع وطننا وشعبنا. نسأل الله أن يفيض سلامه الذي يفوق كل عقل على ربوع بلادنا المصرية وأن يبارك شعبها وكل مجهود مخلص يقدم من اجل استقرار الوطن ورقيه. شاكرا لحضراتكم جميعا حضوركم وتشريفكم لنا، أضرع إلى الرب في ختام كلمتي قائلا مع سليمان الملك: “امنحني يارب الحكمة الوديعة لأدخل واخرج أمام شعبك العظيم”. ليمنحنا الله البركة بشفاعة أمنا القديسة الطاهرة مريم، والقديس مرقص كاروز الديار المصرية.