بعد لحظات من الصمت الذاهل، نظرًا لتلعثم الكاردينال جان-لوي توران لدى تلاوة الاسم، انفجرت ساحة القديس بطرس بالفرحة. البابا هو فرنسيس. لأول مرة في تاريخ الكنيسة يختار خليفة بطرس اسم فرنسيس. فرنسيس “وبس” من دون “الأول”، كما أوضح الأب لومباردي في ما بعد.
إشعاع فقر يسوع
أطل علينا من شرفة البركات وبدا مشابهًا جدًا لـ “Il papa buono” (البابا الطيب)، أي البابا يوحنا الثالث والعشرين. لم يكن ملتحفًا بالثوب التقليدي الأحمر والمطرز بالذهبي. أطل ببياض ثوبه البابوي المتواضع. وعلى صدره صليبه كأسقف وكرئيس أساقفة بيونس أيريس في الأرجنتين. لا عجب، فهو من أتباع آباء “عهد الدياميس”. ما هو عهد الدياميس؟ – خلال المجمع الفاتيكاني الثاني، كانت هناك رغبة كبيرة لدى العديد من آباء المجمع أن يعيشوا حياةً أقرب من أسلوب حياة المسيح في الفقر والتواضع. نرى تجسيمًا لغويًا لهذا التيار في وثيقة “نور الأمم” على أن الكنيسة تجد في “الفقراء والمتألمين صورة مؤسسها، الفقير والمتألم، وتهتم بتخفيف بؤسهم وتسعى من خلالهم إلى خدمة المسيح” (عدد 8).
ولكن بعض الآباء لم يكتفوا بهذه الكلمات. أرادوا أن يعطوا وجهًا ملموسًا وفاعلاً لهذا القرب من الفقراء، لـ “كنيسة الفقراء” هذه كما أسماها البابا رونكالّي. ولذا اجتمع أربعون منهم في دياميس دوميتيلا في روما. (الدياميس هي المواضع التي كان يُدفن فيها المسيحيون الأولون. يظن البعض خطأً أنها كانت المواضع حيث كان يختبئ المسيحيون). وبعد أن قضوا نهارًا في الصلاة أقسموا على حفظ “عهد الدياميس” المتمثل “بالالتزام في عيش حياة فقر وصوغ الكنيسة خادمة وفقيرة”.
رئيس أساقفة بيونس أيرس السابق، خورخي ماريو برغوليو، كان معروفًا لـ “اختياره التفضيلي” للفقراء ولحياة فقر. كان يتنقل، لا بسيارة خاصة وفخمة بل مثل سائر الناس، في مترو الأنفاق وفي الباصات. (سنضع على صفحة الفايسبوك صورة له في مترو الأنفاق).
“من آخر العالم”
بدأ خطابه بمزحة: “تعلمون أن واجب الكونكلاف هو أن يعطي أسقفًا لروما. يبدو أن إخوتي الكرادلة ذهبوا إلى جلبه من أقاصي الارض تقريبًا!”. أخطأ البابا في كلامه بالإيطالية فبدا وكأنه يقول من “نهاية العالم”. وتوقفت عدة جرائد إيطالية على هذا العنوان!! تذكرنا هذه الغلطة بالصورة المطبوعة في ذهن أهالي مدينة روما والإيطاليين عمومًا، لدى انتخاب كارول فويتيوا، يوحنا بولس الثاني العظيم، عندما قال للمؤمنين المحتشدين مرتكبًا خطأً باللغة الإيطالية: “عندما أغلط باللغة ستصلحوني” (وارتكب في قولها غلطًا لأنه قال كلمة تصلحوني وكأنها باللاتينية).
الصلاة أولاً
المؤثر في خطاب البابا الأرجنتيني هو تركيزه على الصلاة: صلى لأجل البابا الفخري. وصلى مع المؤمنين، الصلوات التي يتعلمها كل مؤمن في طفولته من شفتي أمه وأبيه: أبانا، سلام، مجد. طلب الصلاة والبركة وصلى وبارك: “فلنصل دومًا بعضنا لبعض، فلنصل من أجل العالم بأسره، لكي يكون هناك أخوّة كبيرة”.
وفي الختام أعلم الشعب أنه سيختلي اليوم التالي للصلاة إلى مريم أم الله.
أسقف روما
ما يلفت الانتباه في خطاب البابا أنه ركز كل الخطاب على دوره كأسقف روما، كرسي روما “المتقدمة في [خدمة] المحبة”، كما يقول القديس اغناطيوس الأنطاكي. دون دفع التحليل إلى أبعاد لا يمكننا تخمينها، من المهم أن ندرك أن البابا هو بابا كونه أسقف مدينة روما وأن تقدمه ينبع من تقدم الخدمة والمحبة: لم آت لأُخدم بل لأَخدم. ولنذكر أن البابا هو “خادم خدام الله”.
حوار متواضع وبسيط
كان متأثرًا. بدا الأمر بوضوح. ولكن هذا التأثر لم يحل دون دخوله ببساطة وتواضع وفورية في قلوب المؤمنين الحاضرين في الساحة والذين كانوا يتابعون الانتخاب عبر وسائل أخرى. يلفت تواضعه وقلبه للمقاييس.
لم ينطلق مسبغًا بركة من العلاء، بل طلب أولاً من أبرشيته، من مؤمني الكنيسة، أن يصلوا لأجله… وانحنى أمام شعب الله… “الآن أود أن أعطي البركة، ولكن قبل – قبل ذلك، أود أتوجه إليكم برغبة: قبل أن يبارك الأسقف الشعب، أطلب إليكم أن تصلوا إلى الرب لكي يباركني”.
“المكتوب بينقرا من عنوانه”
تأثرنا. أتحدث عن نفسي، وليس فقط، عمن كان حاضرًا معي، عما رأيته في ساحة القديس بطرس، وعما قرأته على الفايسبوك، عما شاهدته في تقارير الناس. تأثرنا بالبساطة، بالتواضع، بما رأيناه عن حياته السالفة كيسوعي وكرئيس أساقفة: شجاعة في وجه التغطرس السياسي؛ أمانة للبساطة، للفقر، لمحبة الرب والإيمان. نعم، نرجو أن يكون الأمر كذلك: “المكتوب بينقرا من عنوانه”. لا بل نؤمن أنه كذلك، فالروح يرافق عروسة المسيح الذي هو معنا “حتى انقضاء الدهر”، أو كما قالها البابا بالإيطالية: حتى “آخر العالم”.