تتويجًا لخطواته السابقة اعتنق يوستينس المسيحية منتقلاً من حياة الفضيلة إلى حياة القداسة، ومن الحقيقة الجزئية إلى الحقيقة الكاملة، فكرس حياته للدفاع عن الإيمان المسيحي ونشره فهو “الفلسفة الوحيدة الأكيدة والنافعة” ومن هنا أتى انتماءه إلى فئة الآباء المدافعين.
قضى يوستينس أعوامه الأخيرة في روما حيث افتتح مدرسة وكتب معظم مؤلفاته ومن بينها تلك الثلاثة التي وصلت إلينا، وكان تاتيانس من تلاميذه، بينما كان له خصم قوي هو الفيلسوف الكلبي كرشنتس الذي وشى بيوستينس فقطعت هامته في أيام الإمبراطور مرقس أوريليوس في العام 165 هو وستة مسيحيين آخرين معظمهم من تلاميذه. أما صفات يوستينس التي نتبينها من خلال أعماله: بسيط، مستقيم، صادق، بعيد النظر، متسامح وذو إيمان حار وسليم.
ما عرفناه عن حياته وصلنا منه هو نفسه من خلال كتاباته، أما سيرة استشهاده فقد وصلتنا من خلال ما أورده أوسابيوس وإبيفانيوس.
مؤلفاته: وصلنا من مؤلفاته الدفاعين الأول والثاني وحوراه مع تريفون اليهودي.
الدفاع الثاني ليوستينس موضوع بحثنا يقع في 15 فصلاً يرى فيهم بعض الباحثين تتمة لفصول الدفاع الأول بينما لا يعتقد باحثون آخرون الاعتقاد ذاته.
لا يعتبر يوستينس كاتبًا ماهرًا فتراكيب جمله متعثرة وأسلوبه جاف، إلا أنه يتحمس أحيانًا فيمسي أسلوبه مؤثرًا.
غاية الدفاع ومضمونه: سبب كتابة هذا الدفاع هو إعدام أوربيكوس حاكم روما لثلاثة مسيحيين، فقط بسبب حملهم الاسم المسيحي، بعد وشاية من زوج ماجن بزوجته المهتدية إلى المسيحية، فنرى يوستينس يستنجد بالسطات الرومانية حاثًا إياها على العدالة، وحب الحقيقة، دون أن يهمل دحض الاتهامات التي تلصق بالمسيحيين وإجابة المشككين على تساؤلاتهم تجاه المسيحية.
دفاعه الثاني يتألف كما سبق وأشرنا من 15 فصلاً تقسم إلى أقسام أربع تليها خاتمة، القسم الأول يتوجه فيه مخاطبًا مجلس الشيوخ الروماني فيحدثهم عن ظلم أوربيكوس حاكم روما وعن قضية الشهيدين لوقيوس وبطليموس، هذا الأخير هو الذي علم تلك الزوجة ذات الزوج الماجن الذي سبق ذكرهما المسيحية، أما لوقيوس فهو أحد الحاضرين في محاكمة بطليموس والذي انبرى للتنديد بالحكم الظالم فلقي الإستشهاد نظير بطليموس.
في القسم الثاني يقوم يوستينس بالرد على اتهامات كرشنتس وأيضًا بالرد على من يدعو المسيحيين إلى الانتحار لتسهيل وتسريع التقاءهم بالله. وفي القسم الثالث يبين بطريقة منطقية احترام الله لحريتنا كبشر، أما في القسم الرابع فيقوم بالمفاضلة بين عقيدة المسيحيين وفلسفة الرواقيين ليخلص إلى سمو المسيحية أمام الرواقية.
بينما في الخاتمة يعود إلى المناشدة والمطالبة بالعدالة وحرية الاعتقاد للمسيحيين ليستطيعوا أن يجهروا بعقيدتهم فتمسي معروفة وتتبدد بالتالي الأحكام المسبقة عنها.
الإشكالية: ربما يصعب تحديد إشكالية وحيدة يعرضها ويعالجها يوستينس في دفاعه الثاني، إلا أن إشكالية رئيسية تطرح نفسها على نحو أكثر وضوحًا من غيرها، هي إشكالية الظلم الناتج عن الجهل، الذي لا بد من محاربته بالحرية؛ بمعنى أن هناك ظلمًا يقع على المسيحيين من قبل السلطات الرومانية، ويتجلى هذا الظلم في التهم الباطلة والإضطهاد والأحكام الجائرة، هذا الظلم ناتج عن جهل الشعب الروماني الوثني بحقيقة المعتقدات والأخلاق والممارسات المسيحية، ولذا لا بد –برأي يوستينس- من منح المسيحيين حرية المعتقد، التي تبدد كل جهل تجاه ممارساتهم وأفكارهم، مما يؤدي إلى انتفاء كل سبب من أسباب الظلم بحقهم.
ملاحظات: لدى يوستينس في دفاع الثاني بعض الأفكار الغريبة كمثل كلامه عن الملائكة والشياطين… هذه الأفكار تذكرنا بما نعلمه حول أنه ليس من الضروري أن تكون كل كتابات أب من آباء الكنيسة متوافقة مع تعاليم الكنيسة، أو بالأحرى معصومة عن الخطأ.
في مطلع رد يوستينس على افتراءات كرشنتس نلاحظ كلامه الذي سيتحقق حول استشهاده: “أنا أيضًا أتوقّع اليومَ الَّذي فيه أُطارَد وأُعلّق على الخشبة، من قِبَل أحد هؤلاء الَّذين سمَّيتُهم، أو من قِبَل كريشنسيوس صديق الضجَّة والزهو”.
موقف لوقيوس وبطليموس وكلام يوستينس عن رفض الانتحار في معرض رده على المشككين يذكران بموقف أغناطيوس الأنطاكي الساعي إلى الإستشهاد وما يميزه عن الانتحار.
أفكار معاصرة حول الدفاع الثاني: نتمتع اليوم كمسيحيين شرقيين بحرية نسبية تجيز لنا ممارسة إيماننا وطقوسنا دونما تضييق أو إزعاج، لكننا نبقى كمثل المسيحيين الأوائل، الذين دافع عنهم يوستينس، محل جهل محيطنا، لا للأسباب ذاتها كما قبل 18 قرنًا، إنما لأننا أقلية عددية وسط أكثرية مختلفة عنا، يحمل بعضها أفكار مسبقة مغلوطة عنا، ولا تتعب نفسها، إلا نادرًا، بالتعرف على المسيحية في أصولها، هذا الوضع يفرض أن نكون في الكثير من المرات، محل جهل وغموض، بالنسبة للآخر، مما يرتب علينا شيئًا مما ترتب على أسلافنا معاصري يوستينس.
كما في السابق هذا الجهل يرتب إعتقادات مغلوطة تستجلب إتهامات بحقنا، ويضعنا في خانة المتهمين فنجد أنفسنا في وضعية دفاعية. هذا الوضع يجعلنا نتساءل اليوم: هل نحن مقصرون في تبديد كل الغموض المثار حولنا وما يستتبعه من اتهامات؟ هل نحن مطالبون أصلاً بدور دفاعي كهذا؟
وبالعودة أكثر إلى أصل المشكلة: هل من تثور ظنونه فينا اليوم نتيجة جهله بنا -نظير كرشنتس ومن لف لفه- يفعل فعلته هذه عن سوء نية وعن رغبة شريرة؟ أم أنه يصل إلى ما يصل إليه تجاهنا جراء فهمه لمذهبه الديني، الفلسفي، الإيديولوجي، وإخلاصه البريء له؟
هنا يلزم السؤال فيما يخصنا: هل نحن كمسيحيون، رغم وضعنا الأقلوي، بريئون من ممارسات شبيهة تجاه المختلف عنا؟ ألا نطلق نحن أيضاً بدورنا أحكام جائرة وسيئة وتعميمية تجاه الآخر؟ ألا نشيطنه بعض المرات؟ وعلى الرغم من معرفتنا الجيدة به؟
لا نعتقد أن أحدًا يملك جوابًا واحدًا شافيًا وشاملاً ونهائيًا لما سبق، الأمر نسبي، ويبدو للأسف أن بعض الاتهامات والظنون تأتي على خلفيات سوء نية مبيتة يصعب إنكارها، لكن لا يمكن تعميم هذا الحكم على كل الحالات، لذا أفضل كمسيحي أن ألوذ ما استطعت بافتراض حسن النية لدى الآخر، وأن لا أتوانى عن تبديد أي غموض وإجابة أي تساؤل يطرح علي فيما يختص بإيماني، تبديد وإجابة بسلوكي وتصرفي أولاً قبل قولي وشرحي، والأهم ألا أمارس بحق الآخر ما انكره عليه من ممارسته بحقي.
المراجع:
بسترس سليم وآخرون، تاريخ الفكر المسيحي عند آباء الكنيسة، منشورات المكتبة البولسية، 2001.
جبارة، جوزيف، قاموس أعلام الفكر الديني المسيحي، الجزء 1 (القرون1-8)، منشورات المكتبة البولسية، 2010.
يوستينوس، الدفاع عن المسيحيين والحوار مع تريفون، تعريب جورج نصور، أقدم النصوص المسيحية، الكسليك، 2007.