ولا شكّ في أن سلوكه البسيط أثار إعجاب معظم النّاس الّذين استساغوا طريقته “الشعبيّة” في مقاربة منصب يعتبر من الأهمّ على مستوى كوكبنا الأرض.
ولكن لا بدّ من التوقّف أمام اللقب الّذي تردّد كثيرًا في الايّام الأخيرة وهو “بابا الفقراء” وقد كنت أيضًا ممّن استخدموه إلى أن تنبّهت إلى مسألةٍ خطيرةٍ بدأت بالظهور تدريجيًّا في وسائل الإعلام.
فقد دأبت هذه الوسائل المتعدّدة من تلفازٍ وصحف ومواقع إلكترونيّة على التركيز على تصرّفات البابا بصورةٍ كثيفة وعمد بعضها إلى إجراء مقارنات مع أسلافه بصورةٍ تجعل القارئ يظن وكأن الكنيسة لم تكن معنيّة بالفقراء قبل قدوم البابا فرنسيس!
لذا يأتي المقال ليؤكّد على حقيقة أساسيّة: الكنيسة لجميع النّاس وليست كنيسة الفقراء بمواجهة الأغنياء كما ليست كنيسة الأغنياء بمواجهة الفقراء، بل جماعة المؤمنين الّذين يهتمّ كلّ منهم بالآخر وفق تعاليم الربّ يسوع ووفق النّموذج الّذي طبّقته الكنيسة الأولى ومن هناك ننطلق.
1- في الأناجيل: كنيسة للفقراء وللأغنياء!
ولد الربّ يسوع كالفقراء في مكانٍ وضيع هو مزود في قاعة للضيوف (لوقا 2: 7) وقدّمت عنه في الهيكل تقدمة الفقراء، “زَوجَيْ يَمَام، أَو فَرْخَيْ حَمَام” (لوقا 2: 24).
وتضامن كثيرًا مع الفقراء وكان له الكثير من المواقف في مواجهة الأغنياء ولكنه لم يشجّع الفقير كي بيقى فقيرًا ولم يهاجم الغنيّ لمجرّد أنّه غنيّ!
هناك نصٌّ أثّر كثيرًا في تفسير موقف يسوع تجاه الأغنياء وهو نصّ الشاب الغنيّ ونقتبس منه، بعد أن أكّد ليسوع بأنّه يحفظ الوصايا، ما يلي: “قَالَ لَهُ يَسُوع: “إِنْ شِئْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلاً، فَاذْهَبْ وبِعْ مَا تَمْلِك، وأَعْطِ الفُقَرَاء، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ في السَّمَاء، وتَعَالَ اتْبَعْنِي!”. فلَمَّا سَمِعَ الشَّابُّ هـذَا الكَلامَ مَضَى حَزِيْنًا، لأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ مُقْتَنَيَاتٍ كَثِيْرَة. وقَالَ يَسُوعُ لِتَلامِيْذِهِ: “أَلـحَقَّ أَقُولُ لَكُم: يَصْعُبُ على الغَنِيِّ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَات”. وأَيْضًا أَقُولُ لَكُم: إِنَّهُ لأَسْهَلُ أَنْ يَدْخُلَ جَمَلٌ في ثِقْبِ إِبْرَة، مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ مَلَكُوتَ الله”.” (متى 19: 21-24)!
لطالما فسّر هذا النصّ من قبل الكثيرين كإدانة للغنى بشكلٍ عام… ولكن وجود عدّة أغنياء في محيط يسوع المباشر يدحض هذه المقولة وخاصّةً في نموذج زكّا العشّار (لوقا 19: 1-10) الّذي قبل يسوع توبته بمجرّد أن فكّر بالتعويض على من أساء إليهم أو ظلمهم وقدّم ممّا لديه للفقراء!
ما يجب أن نفهمه من خلال نصّ الشاب الغنيّ كما من خلال نصّ الغنيّ الجاهل (لوقا 12: 16-21) هو أن يسوع يدين الغنيّ الأنانيّ والغنيّ الّذي لا دور للّه في حياته ويحبّ المال أكثر من الله!
من جهةٍ أخرى، لم يطوّب الربّ الفقراء لأنّهم فقراء بل لأنّهم “فقراء بالرّوح” (متى 5: 3) أي على استعداد ليملأهم الله من روحه بدل أن ينتفخوا من روح العالم!
ولو أراد الربّ أن يبقى الفقراء فقراء لما شجّع على العطاء والصدقة والتضامن من خلال تعاليمه (متى 6: 2-4) ،على أن تبقى هذه المساعدات سريّة كي لا تحرج المحتاج ولا تنفخ المعطي!
وكذلك لم يطوّب الربّ الجياع إلى الطعام والعطاش إلى الشراب، بل طوّب الجياع والعطاش إلى البرّ (متى 5: 6) أي إلى سماع كلمة الله والاتّحاد به والعمل بوصاياه!
حارب الربّ يسوع بوضوح الفقر والجوع والحرمان ولم يشجّع أحدًا على البقاء على حاله كما حارب الأنانيّة لدى الأغنياء… ولكن منطلقه كان المحبّة وليس وضع الفقراء والأغنياء بمواجهة بعضهم البعض بل بناء جسر تواصل فيما بينهم على قاعدة المحبّة الشاملة…
لا بدّ هنا أيضًا من التنبيه بأنّ الربّ يسوع حذّرنا من مغبّة استغلال محبّة الفقراء لتمرير مشاريع مشبوهة يوم ورد في نصّ دهنه بالطّيب ما يلي:” وأَخَذَتْ مَرْيَمُ قَارُورَةَ طِيبٍ مِنْ خَالِصِ النَّاردِينِ الغَالِي الثَّمَن، فَدَهَنَتْ قَدَمَي يَسُوعَ، ونَشَّفَتْهُمَا بِشَعْرِهَا، وعَبَقَ البَيْتُ بِرَائِحَةِ الطِّيب. قَالَ يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطيّ، أَحَدُ تَلامِيذِ يَسُوع، الَّذي كَانَ مُزْمِعًا أَنْ يُسْلِمَهُ: “لِمَاذَا لَمْ يُبَعْ هـذَا الطِّيبُ بِثَلاثِ مِئَةِ دِينَار، ويُوَزَّعْ ثَمَنُهُ على الفُقَرَاء؟”. قَالَ هـذَا، لا اهْتِمَامًا مِنْهُ بِالفُقَرَاء، بَلْ لأَنَّهُ كَانَ سَارِقًا، والصُّنْدُوقُ مَعَهُ، وكَانَ يَخْتَلِسُ مَا يُلْقَى فِيه. فَقَالَ يَسُوع: “دَعْهَا! فَقَدْ حَفِظَتْهُ إِلى يَوْمِ دَفْنِي! أَلفُقَرَاءُ مَعَكُم في كُلِّ حِين. أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ في كُلِّ حِينٍ مَعَكُم”.” (يوحنّا 12: 3-8).
لا يعني ذلك أبدًا إهمال يسوع للفقراء بل حرصه على عدم استغلالهم لمآرب خاصّة أو لتحقيق مكاسب شخصيّة باسمهم وباسم حاجاتهم.
ولا ضرورة للشرح بأن الربّ يسوع رفض استخدام العنف كوسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعيّة مفضّلًا الموت على الصّليب والغفران لصالبيه دون أن يعني ذلك أنّه على الإنسان السكوت عن حقوقه البديهيّة لأنّه كان المبادر للدّفاع عنها إنطلاقًا من اعتباره كلّ النّاس أبناء لله، متساوين في الكرامة وفي حقّ الوجود!
هذا ما فهمته الجماعة المسيحيّة الأولى، كما سيظهر من خلال كتاب أعمال الرّسل.