يرسم لينش بملامح سريعة ودقيقة النظرة السلبيّة حول الشرق الأوسط المتجذّرة لدى الأمريكيّين (مكان عنف، التغيير فيه من رابع المستحيلات) بعد 11 أيلول/سبتمبر، ويبرز بعدها المفاجأة الناجمة عن ثورات الأشهر الأولى من عام 2011، فقد أبرزت وسائل الإعلام حركات غير عنفيّة، «أناس مثلنا، نتماثل معهم». لكنّ الحماس لم يدم طويلاً، وعاد التشاؤم ليسيطر اليوم على الأجواء، فالتغيير في الشرق الأوسط - وهذا هو الاستنتاج السائد حاليًّا – له في نهاية المطاف تأثيرات سلبيّة.

لا يوافق لينش على ذلك. فهو إذ يعترف بعناصر من باب الحقيقة في هذا التشخيص، يعتقد بأنّه لا ينبغي قراءة أحداث ميدان التحرير كحدث منفصل، كنوع من المعجزات، بل كتعبير عن التغيير الهيكليّ في المجتمعات العربيّة الآتي من زمنٍ أبعد بكثير، على الأقلّ من التسعينيّات. فحتّى تلك الفترة كان الجدل السياسيّ في الشرق الأوسط غير موجود كليًّا. وكانت الأنظمة الدكتاتوريّة تسيطر على كلّ جانب من جوانب حياة المواطنين، وكانت تحتكر الإعلام. مثالٌ صارخ على ذلك: عندما غزا صدّام حسين الكويت، عرف غالبيّة السعوديّين بذلك فقط بعد أربعة أيّام من حدوثه. فقد كانت القيادة السعوديّة حائرة في ما يجب القيام به، وفضّلت إخفاء ما كان يحدث عن الشعب. إنّنا نتحدّث بالكاد عن عشرين سنة إلى الوراء، ولكن يبدو وكأنّها حقبة أخرى. بعد بعض الانفتاحات الخجولة، جاء التحوّل مع قناة الجزيرة الفضائيّة. أو بشكلٍ أفضل الجزيرة السابقة، حين كانت محطّة الإرسال القطريّة تتمتّع بحريّة عمل جوهريّة، بخلاف اليوم.

فالجزيرة «اعتمدت مقاربة غير عاديّة تجاه السياسة، حيث اختارت الحديث عنها». وكان النجاح الكبير (يتراوح مؤشِّر الإصغاء ما بين 50 إلى 60% في كلّ العالم العربي، في حين أنّ عملاقًا مثل فوكس نيوز اليوم لا يتخطّى أكثر من 5 % في الولايات المتّحدة) إشارة إلى حاجة ما. وتمحورت المناقشات الأولى بشكل رئيسيّ حول السياسة الخارجيّة، مع إدانة الغزو الأميركيّ للعراق، ولكن سرعان ما بدأت الانتقادات تصل أيضًا إلى السياسة الداخليّة. هذا الاتّجاه على المدى الطويل، حيث لعبت وسائل الإعلام الجديدة دور المضاعفات، هو السبب الذي من أجله لا يعتبر لينش العودة إلى الماضي ممكنة.

ولكن ما الجديد إذًا في الانتفاضات العربيّة لعام 2011؟ لقد نجح الاحتجاج، للمرّة الأولى. ووجد المتظاهرون، وهذه كانت مفاجأة لهم، أنّهم مدعومون من الشعب. لهذا السبب، يعتبر لينش، ليست صورة الربيع العربيّ كلّها غير صحيحة إذا ما تناولناها لتحديد فترة زمنيّة تمتدّ من كانون الثاني/يناير إلى آذار/مارس 2011، عندما انتشرت في الدول العربيّة فكرة أنّ التغيير ممكن، بل لا مفرّ منه. سقوط بن علي كان الإشارة، واستقالة مبارك التأكيد على ذلك. ومع ذلك، فقد عرف الربيع توقّفًا حادًّا في آذار/مارس، فقد احتوت المملكة العربيّة السعوديّة، من خلال امتيازات اقتصاديّة سخيّة وتدخّل أجهزة الأمن لديها، الاحتجاج في داخلها، ووأدت الثورة في البحرين، عبر لعبها لأوّل مرّة على وتر الطائفيّة، أي في دفع السنّة والشيعة إلى المواجهة. وفي الشهر نفسه تحوّلت الانتفاضة في اليمن وسوريا من ثورة غير عنيفة إلى ثورة مسلّحة ووصل القذّافي إلى قيد أنملة من القضاء المحسوس على المتمرّدين في برقة. في ذلك الوقت قرّرت الناتو (منظّمة حلف شمال الأطلسي) التدخّل في بنغازي. وبذلك انتهى الأمل في أن يكون التغيير السلمي ممكنًا في كلّ مكان. ومنذ تلك الفترة، كان الخيار العسكريّ هو الأرجح.

ولكن حتّى عندما فشلت الانتفاضة العربيّة (هذا هو المصطلح المفضّل عند لينش)، كما هو الحال في الخليج، لم تعد الأمور، ولا يمكنها أن تعود، إلى نقطة البداية. وتُعتبر توقّعات الباحث الأميركي متفائلة بشكلٍ كافٍ بالنسبة لشمالي أفريقيا، أقلّه على المدى المتوسّط، أي حوالي عشر سنوات، فعلى الرغم من أنّه ارتُكبت كلّ الأخطاء التي يمكن تصوّرها، خاصّةً في مصر، وعلى الرغم من الركود السياسيّ، وزيادة الاستقطاب ومخاطر انهيار اقتصاديّ هو على قاب قوسين أو أدنى، فإنّ اللعبة لا تزال جارية. يفترض لينش بالنسبة للخليج تصاعدًا للاحتجاجات الشعبيّة، في حين أنّ التوقّعات سوداويّة كثيرًا بالنسبة لسوريا والدول المجاورة (المعروفة تقليديًّا بالمشرق). فهناك تسود الفوضى، وتتنازع الفصائل المتناحرة السيادة على الأراضي فيما ليس خطر اتّساع الأزمة ببعيد البتّة، خاصّةً إذا ما تفاقمت المشكلة الفلسطينيّة.

ومن المشرق بالتحديد يستوحي لورينسو كريمونيزي، مراسل حرب جريدة الكورييري ديللا سيرا، للردّ على عرض لينش بصفة respondent. فهو يوافق على العدد الأكبر من النقاط، لكنّه يشدِّد على كيف أنّ حالة الفوضى قد ولّدت إحساسًا منتشرًا بالتعب لدى الشعوب. سوف تعطى الأولويّة الآن لاستعادة الاستقرار بأيّ ثمن كان. وهو يذكر تجربته الشخصيّة مع الوجهاء الأفغان بعد تدخّل الناتو بقليل: لقد قبلنا الطالبان – كانوا يشرحون لنا - لأنّ البلاد كانت منهارة لدرجة أنّنا كنّا بحاجة قبل كلّ شيء إلى حفظ الاستقرار.

ولاحظ كريمونيزي أيضًا كيف أنّ الحملة على ليبيا غيّرت من طبيعتها على مدار الأشهر، حيث انتقلنا من الدفاع عن بنغازي إلى مرحلة الهجوم التي سلّطت الضوء على غموض الثوّار. وأخيرًا يحذّر كريمونيزي من مقدار الاستعمال الفعليّ للإنترنت في هذه البلدان، حيث يؤكّد على أنّها ظاهرة لا تزال محدودة، وأنّ هناك شريحة كاملة من الشعب، على سبيل المثال في مصر، مستثناة منه.

لكنّ هناك توافقًا كاملا حول نقطة واحدة، ألا وهي أهميّة التنافس ما بين السنّة والشيعة، الذي انفجر مرّة أخرى بعد حرب عام 2003 في العراق. ها هو آخر مفتاح قراءة تركه المحاضران للجمهور.