لقطات من زيارتي مع الكاريتاس لقطاع غزة

تقرير الأب رائد أبو ساحلية، كاهن رعية العائلة المقدسة في رام الله

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ننشر فيما يلي تقرير الأب رائد أبو ساحلية، كاهن رعية العائلة المقدسة في رام الله، عن زيارته الأولى إلى قطاع غزة وانطباعاته.

رافقت طاقما من كاريتاس القدس لزيارة غزة لتطبيق حملة الاغاثة التي اطلقناها بعد الحرب في نوفمبر الماضي. وكانت هذه زيارتي الاولى لغزة فصاحبتها مشاعر عميقة ورغبة في اكتشاف هذا العالم الذي طالما سمعنا عنه ولم نره بأعيننا وشاهدناه على شاشات التلفزيون ولم نختبره بأنفسنا. وقد كان لهذه الزيارة وقع خاص بسبب الاوضاع الحالية في مصر وهدم الكثير من الانفاق واغلاق معبر رفح، ولكن أيضا صادفت مع بداية شهر رمضان، فكان لها دلالات مهمة نود مشاركتكم بها في هذه العجالة:

أول ما يلفت الانتباه قبل الدخول الى غزة المرور من “معبر ايرز” الذي يعتبر أحدث وأضخم من أي معبر دولي رغم أن من يمر به عدد قليل ممن يحظون بالتصريح الخاص والتنسيق اللازم للعبور، وما أن يتم الفحص الامني وتخرج حتى تجد أمامك ممرا أشبه بالنفق طوله ثلاث كيلومترات يوصل الى الجهة الاخرى حيث ينتظرك رجال حماس.

وتدخل الى غزة حيث الاكتظاظ السكاني الاعلى في العالم اذ يبلغ عدد سكان القطاع حوالي مليونين من البشر في مساحة محدودة طولها أقل من اربعين كيلومترا وعرضها أقل من عشرة كيلومترات يعيشون بين معبر ايرز من الجهة الشمالية الاسرائيلية ومعبر رفح من الجهة المصرية، وبين شريط حدودي معزول من الشرق والبحر من الغرب.. وينتابك شعور خانق بأنك في أكبر سجن في العالم بسماء مفتوحة.

كنت قد كتبت اطروحة الفلسفة للبكلوريوس عن الصدفة والحياة ولكن لم أؤمن على الاطلاق بالصدفة والمصادفة بل أسميها دائما بالعناية الالهية، وثبت هذا بالتمام والكمال هذه المرة بالذات اذ أننا كنا نحاول من اسابيع ادخال كمية كبيرة من زيت الزيتون والعصير الطبيعي الى غزة، وبعد معيقات كثيرة ومماطلات وتأجيل فان هذه الشحنة وصلت بعد ساعة من وصولنا فما أن وصلنا الى ساحة الدير حتى وصل كل شيء، الشحنة من الضفة الغربية وبراميل المياه وأكياس الحليب لألف عائلة.. فقلت في نفسي “سبحان الله” صدقت الآية التي أحبها “إن الله يسخر كل شيء لخير الذين يحبونه”.

أما لقاؤنا الاول فكان مع الاب جورج هرناندس كاهن رعية غزة بثوبه الاسود وجسمه الضخم ولكن خاصة بأحلامه العريضة الكثيرة والكبيرة، فاكتشفت حالاً بأنه انسان وكاهن يحمل هموم وآلام وآمال شعبه، فهو يريد أن يساعد الجميع دون استثناء: فهو يفكر بتوفير الاسكانات للشباب، وفرص العمل للعاطلين عن العمل، والتعليم للطلاب، والاستمرارية للمدارس، وخاصة المساعدات للعائلات الفقيرة التي لا دخل لها تقريبا.. هذه الاحلام الحالية الآنية الملحة، أما الاحلام المستقبلية الكبيرة فتتلخص بانشاء “قرية المحبة” وهي فكرة ابداعية طموحة تود توفير الاقامة والخدمة لآلاف من ذوي الاحتياجات الخاصة والمرضى والمسنين.. طبعا هذا حلم يمكن أن يتحقق انشاء الله.

وفي اليوم الثاني بدأنا الجولات في الميدان:

فزيارتنا الاولى لمركزنا الطبي في مخيم الشاطيء بطاقمه المكون من 18 موظف من اطباء وممرضات واخصائي مختبر ونسائية ونفسية ويخدمون العيادة الثابتة والعيادة المتنقلة التي تصل الى ست نقاط مختلفة في انحاء نائية من القطاع لا تصلها الخدمة.. لقد اعجبت بخدمتهم وروحهم الطيبة ورغبتهم في العطاء.. والله يعطيهم العافية لانهم يعملون بظروف صعبة وامكانيات محدودة.

ثم ذهبنا لزيارة مركز الاطراف الاصطناعية وقابلنا مديره السيد حازم الشوا الذي نتعامل معه من مدة طويلة.. واتفقنا على تمويل 20 حالة من متضرري الحرب وخاصة من الاطفال وتركيب اطراف اصطناعية لهم ضمن حملة الاغاثة.. والمؤثر جدا هو زيارة المركز وكيفية معالجة الحالات المختلفة وتصنيع الاطراف الاصطناعية وتركيبها واعادة تأهيل اصحابها من اولاد وشباب وشابات ونساء وحتى كبار في السن.. وهنا ترى العجب العجاب من جهة ولكن ايضا قصص نجاح تعطي الامل للكثير من المتضررين وتعيدهم الى حياة شبه طبيعية.. واكتشفنا البراعة والاتقان والابداع مما يجعل هذا المركز من افضل المراكز على مستوى الشرق الاوسط..

والزيارة التالية لمنطقة السرارحة البعيدة حيث ذهبنا لتوزيع أول كمية من الطرود الغذائية عن طريق جمعية نسائية منظمة جدا ترأسها امرأة قوية وقيادية.. وهناك تلتقي مع الفقر والحاجة والبساطة لأناس يعيشون على الطبيعة تقريبا.. ومع ذلك لهم كرامتهم فهم يأخذون المساعدة شاكرين ممتنين دون الهجوم او التدافع ولا الذل.. وكان يساعد في التوزيع فريق من شباب وشابات متطوعي الكاريتاس من اللجان الشعبية بلباسهم المميز بشعار الكاريتاس.. وقد أثر بي احدهم عندما اصر على الوقوف بجانبي عندما التقطنا الصورة الجماعية وقال لي: “ان وجود الكاريتاس عنا نعمة وبركة”.. كانت هذه الكلمات كافية.

وفي طريق عودتنا من هذه الزيارة عن طريق شط البحر كان الاكتشاف الرهيب للتلوث المخيف لمياه البحر على طول الساحل وذلك لرمي مياه مجاري غزة في البحر لدرجة ان لون البحر اصبح اسود والرائحة كريهة وبطبيعة الحال تموت الاسماك ويعم الداء والبلاء والامراض. والغريب في الامر أنك تجد الناس يسبحون في البحر رغم كل هذه المكرهة الصحية!.. الامر بحاجة الى حل سريع فلو تمت تحلية كل هذه المياه العادمة، ولو تم استخدامها في الري، لتحول القطاع الى جنة غناء وخضراء؟!

وقمنا بزيارة لعينة من عشر عائلات في بيوتها من بين الالف عائلة التي سيوزع عليها مبالغ مالية وخاصة م
ن العائلات التي فقدت بيوتها بالكامل اثناء الحرب وهنا تكتشف الظروف الصعبة التي يعيشون فيها، فمنهم من يعيش في بيوت صغيرة فقيرة، ومنهم من يعيش في ابراج كبيرة عالية.. تنقطع الكهرباء يوميا عدة مرات ولعدة ساعات، لا تتوفر مياه للشرب اذ يقومون بشراء المياه العذبة يوميا من باعة متجولين.. وهذه حال كل القطاع.. باختصار بيوت من الطوب كالافران من شدة الحرارة وكثرة الرطوبة وانقطاع الكهرباء..!

وعن الوضع الطبي حدِّث ولا حرج! فقد زرنا وزارة الصحة والتقينا المسؤول عن العلاقات العامة والتعاون الدولي لتسليم كمية كبيرة من الأدوية النادرة والضرورية وغير المتوفرة في القطاع.. وهنا اكتشفنا النقص الحاد في الادوية اذ ان 132 نوع من الادوية الضرورية غير متوفر في القطاع، كما أن الكثير من المستشفيات تعاني من نقص الوقود لتشغيل مولدات الكهرباء بسبب هدم الانفاق واغلاق معبر رفح من الجانب المصري.. ولكن تكتشف شدة التنظيم في الوزارة وغيرها من الوزارات لدرجة انك تشعر بأنك في دولة مستقلة قائمة بذاتها من عالم آخر.. وتقول بينك وبين نفسك هل انت في دولة فلسطين أم في إمارة غزة.. لدرجة أني توصلت الى النتيجة: سلام على المصالحة!

وكانت الزيارة الاخيرة في الجانب الطبي للمستشفى الاهلي الذي تديره الكنيسة الانجيلية اذ قدمنا ايضا كمية من الادوية..  كما أن الكاريتاس كان قد قدم سيارة اسعاف حديثة جدا لهذا المستشفي بعد حرب 2008… وهنا نكتشف اهمية العمل الانساني والطبي والاجتماعي الذي تقوم به الكنائس في غزة رغم قلة عدد المسيحيين الذي لا يصل ال 2000 شخص أي حوالي 430 عائلة.. وكما نستنتج اهمية عمل المؤسسات الدولية مثل الاونروا والصليب الاحمر ومجلس الكنائس واتحاد الشبان المسيحيين والبعثة البابوية والكاريتاس.. ومع ذلك تشعر بأن كل هذا مثل النقطة في بحر احتياجات غزة الكثيرة والمتزايدة.. فالكل يصرخ وينادي ويستغيث لأنه يمر في أزمة مالية ومادية ونقص في الأدوية والوقود.. فكنت كلما سمعت النداء اقول في نفسي: العين بصيرة والأيد قصيرة.. للأسف الشديد.

ونتجول في شوارع غزة المقتظة في مساء اليوم الاول من رمضان ونشعر وكأن الحياة طبيعية عادية.. فالناس يجرون، والمحلات التجارية ممتلئة بمختلف البضائع، والسيارت المهلهلة تتجول بتزاحم وفوضى، والعربات التي تجرها الخيول أو الحمير تنقل البضائع أو الركاب في الطريق المؤدية الى البحر للاستجمام، وسيارات “التوك توك” الصغيرة تزورق في الازقة.. ولكن وسط هذا الزحام تشعر بالتأزم والضيق لا بل الاختناق وتشعر بأن تحت الرماد نار قد تشتعل وكأنك وسط هدوء ما قبل العاصفة.

ورغم أن الخروج من غزة أعقد من دخولها، فالمعبر يصبح آليا فقط لا ترى فيه أي جندي يكلمك أو يفتشك فهم يتعاملون معك فقط بالكاميرات ومكبرات الصوت وكأنك ارهابي.. ولكننا خرجنا باصرار بأن هذه الزيارة لن تكون الاولى والاخيره لأنه يجب أن نرجع مرات ومرات فلا يمكن أن نترك اهلنا هناك وحدهم وسط المعركة.. ونتمنى لو تزول الحدود وينتهي الانقسام ويلتم الشمل.. عندها ستصبح غزة محجا بسبب أهلها الطيبين وبحرها الجميل.. فهناك اناس يستحقون الحياة.

الاب رائد ابو ساحلية

كاهن رعية العائلة المقدسة في رام الله

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير