كلام البطريرك الراعي جاء خلال ترؤسه قداس عيد انتقال السيدة العذراء في الصرح البطريركي في الديمان وعاونه المطرانان مطانيوس الخوري وفرنسيس البيسري والمونسينيور جوزاف البواري وخدمت القداس جوقة مار رومانوس –حدشيت بحضور حشد من المؤمنين . وبعد تلاوة الانجيل المقدس القى البطريرك الراعي عظة بعنوان “ها منذ الآن تطوبني جميع الأجيال” (لو 1: 46و48و49)وفيها:
1- نشيد التعظيم لله هذا ، رفعته مريم ، بإلهام من الروح القدس في زيارتها الى بيت زكريا وأليصابات ، حالا بعد بشارة الملاك لها ، وإعلامها بأن أليصابات حبلى بإبن في شيخوختها ، وهي في شهرها السادس ،بومها امتلأ البيت والاشخاص من الروح القدس وتحرك الجنين فرحا في حشا الامين ،فرفعت مريم التعظيم لله القدير وتنبأت “ها منذ الآن تطوبني جميع الأجيال ، لأن القدير صنع بي العظائم ” (لو1:56و48و49)
2- يسعدنا أن نواصل نحن اليوم ، كما سوانا في كل كنائس الأرض مسيرة الأجيال التي تطوب مريم منذ ألفي سنة ، إذ نحتفل بعيد إنتقالها بالنفس والجسد ، الى مجد السماء . وهو عيد عزيز على جميع المسيحيين وبخاصة على بطاركتنا وكرسينا البطريركي الذي يكرم سيدة الإنتقال من إيليج الى قنوبين ومن الديمان الى بكركي . فرافقت مريم من سماءها كنيستنا وأبناءنا وبناتنا ، في لبنان والشرق الأدنى والأوسط ،وفي سائر بلدان الإنتشار ،وكلهم من حيث ما وجدوا يهتفون إليها بنداء واحد واثق : “وإن كان جسمك بعيداً عنا ، فصلواتك هي تصحبنا” ، وقد لجأوا دائماً الى حمايتها في كل ظرف وصعوبة ومحنة وكانوا يلقون دائماً عونها وتعزيتها ونعمتها .
3- ونحن بإسم الكنيسة في لبنان ، على تنوع طقوسها وتراثاتها وكنائسها المحلية ، وبحضور البطاركة رؤسائها والأساقفة والإكليروس والشعب ، وبحضور رئيس البلاد ورئيس الحكومة المكلفين والرسميين كرسنا لبنان وبلدان الشرق الأوسط لقلبها الطاهر في بازيليك سيدة لبنان بحريصا في 16 حزيران الماضي وإيماناً منا بأن مريم الشفيعة القديسة لدى الله تستجيب دعاءنا وتلهم المسؤولين عندنا وفي هذا الشرق المعذب بالحروب وأعمال العنف والإرهاب والنزاعات الى طريق السلام العادل والدائم والشامل .
إن فعل التكريس هذا يتجدد مع جماعات تلتقي مساء كل ثالث أحد من الشهر في معبد سيدة لبنان بحريصا . فأرجو من الجميع أن يرفعوا صلاة التكريس يوميا ً في بيوتهم وعائلاتهم .
4- تفرح الكنيسة اليوم وتطوب أمها مريم الكلية القدسية في عيد إنتقالها بالنفس والجسد الى مجد السماء . وهي عقيدة إيمانية أعلنها المكرم البابا بيوس الثاني عشر في اول تشرين الثاني 1950 لكن التقليد والإحتفال بتذكار إنتقالها ، يرقى الى عهد الرسل . إنه عيد أساسي في الحياة المسيحية والعقائد المريمية ، فبانتقالها نفساً وجسداً الى السماء ، بلغ الله القدير ذروة العظائم التي حققها في شخص مريم ، والتي عليها تطوبها الأجيال وتعظم الله القدير .
ففي إعلان عقيدة الإنتقال ، ذكر البابا بيوس الثاني عشر العظائم السابقة التي توجها بالإنتقال . قال : “إن مريم البريئة من دنس الخطيئة ، وأم الله الدائمة بتوليتها ، وشريكة إبنها في الفداء ، بعد نهاية حياتها على الأرض ، نقلت بجسدها ونفسها الى المجد السماوي” .
هذه العظائم هي بمثابة الاسس والاساس الاول
5- نقلت مريم بالنفس والجسد الى مجد السماء لأنها لم تتدنس بخطيئة . فمنذ اللحظة الأولى لتكوينها في حشاء أمها حنة ، تدخل الله وعصمها من الخطيئة الأصلية . وهي خطيئة آدم وحواء التي يرثها كل مولود وامرأة . عصمها بامتياز ،إستباقاً لإستحقاقات يسوع الذي سيكون أبنها ويفتدي الجنس البشري . إنها عقيدة الحبل بلا دنس التي أعلنها الطوباوي البابا بيوس التاسع في 8 آب 1854 . إن الخطيئة الأصلية تمحى منا بالمعمودية لكن طبيعتنا تبقى مجروحة وميالة الى الخطأ والشر . فأسس المسيح الرب سر التوبة والمصالحة لمحو الخطايا الشخصية ونيل الحياة الجديدة .
اما مريم فلم تتدنس بأي خطيئة شخصية إذ كانت مملؤة نعمةً ، كما حياها الملاك يوم البشارة ، هكذا علم المجمع التريدنتيني(1545-1563)
تعلمنا هذه الحقيقة الأولى أن الله يعرف كل كائن بشري من اللحظة الأولى لتكوينه بيولوجياً في حشا أمه ، ويضع فيه روحاً من روحه ويحوله على صورة ، ويدعوه لدور خاص في الحياة ، بفرادته ومواهبه ، وفي تاريخ الخلاص ، ما يعني أن الحياة البشرية مقدسة وذات حقوق في الوجود وكرامة . إن الإجهاض والقتل والإعتداء على الحياة البشرية جسماً أو روحاً أو معنوياً جريمة في نظر الله .ثقافتنا المسيحية والإنسانية هي ثقافة حياة وكرامة الإنسان ، لا ثقافة القتل والإعتداء .
الأساس الثاني
6- ونقلت مريم الى مجد السماء بنفسها وجسدها لأنها أم الإله الدائمة البتولية .
أعلن مجمع أفسس سنة 431 أن مريم ، هي أم الإله ، يسوع المسيح ،لا بالطبيعة الإلهية بل بالطبيعة البشرية ،لكنها أم الإله لأنه ولج كشخص إلهي في حشاها واتخذ جسداً بشرياً منها ، وظلت الأم عذراء بتولا في الحبل والولادة وبعدها وهي عقيدة إيمانية أعلنها المجمع اللاتراني سنة 1649 وقد تمت فيها نبوءة أشعياء : “العذارء تحبل وتلد إبناً ” (أشعياء14:7) . إن مريم ألام الإله مثال لنا جميعاً في الإتحاد بالمسيح لقد قبلت الكلمة الإلهية في روحها وقلبها بالإيمان والرجاء والمحبة ، أعطتها جسداً بشرياً ، يسوع المسيح مخلص العالم . أما نحن ، إذا قبلنا الكلمة الإلهية مثلها ، يتخذ المسيح الرب حضوراً فينا فاعلاً ، على مثال إختب
ار القديس بولس :”أنا أحيا ، لا أنا ! بل المسيح يحيا في”. وعندما يتم فينا هذا الإتحاد ، يتخذ إسم مسيحي عندنا معناه الحقيقي وأبعاده . فالمسيحيي مدعو ليكون مسيحاً آخر . ومريم الدائمة البتولية هي مثال المكرسين والمكرسات الذين وقفوا بتوليتهم لله وللكنيسة
الأساس الثالث
7- ونقلت مريم الى مجد السماء بنفسها وجسدها ، لأنها شركة إبنها في عمل الفداء . لقد شاركته في آلامه وقبول موته فداءً عن البشر بكلمة “نعم أنا خادمة للرب” قالتها يوم البشارة بإيمان ورجاء وحب ، ورددتها كذلك على اقدام الصليب ، فأصبحت شريكة المسيح إبنها بنوع فريد عل الإطلاق ، وانطبعت أمومتها بطابع” المحبة المتقدة عند جميع الناس . فكانت مشاركتها في آلام الصليب والفداء آلام مخاض ، فجعلها يسوع أما لكل إنسان بشخص يوحنا : “يا يوحنا هذه أمك ، ويا امرأة هذا إبنك ” وأما للكنيسة ترافق من سمائها أبناءها وبناتها في رحلة الدنيا الى ميناء الخلاص .
8- ان مشاركة مريم في آلام الفداء مثال لكل متألم في جسده او روحه او معنوياته،ايا يكون نوع وجعه ،لكي يضم آلامه الى آلام المسيح ،فتكسب قوة خلاص وفداء لذاته ولعائلته وللعالم . وهكذا كل ألم بشري شخصيا كان ام جماعيا ،اصبح ألم مخاض، فلا بد من ان يولد منه شيئ جديد.
9- نداءات – في عيد انتقال العذراء مريم الى المجد السماوي دعوة لنا لنرفع دوما افكارنا وقلوبنا الى السماء الى قمم الروح والاخلاقية ،نستلهمها لكي نبني مدينة الارض .انني اوجه النداء من وحي العيد الى الغارقين في مستنقعات المادية والاباحية الاستهلاكية لكي يرتفعوا الى الخبز الروح والقيم التي تعيد لهم كرامتهم الانسانية وتطي معنى لوجودهم .
واوجه النداء الى الغرقى في مستنقع السياسة المحولة الى وسيلة للنفوذ والاستقواء وسرقة المال العام ولكسب المصالح الصغيرة الشخصية والفئوية على حساب الصالح العام ،ليرتفعوا الى قمم السياسة كفن شريف لخدمة الانسان والمجتمع والخير العام.
واوجه النداء الى الغرقى في مستنقعات الحرب وعبادة السلاح والسلطة وانتهاج العنف والارهاب لكي يرتفعوا الى سمو كرامتهم وكرامة الانسان وقدسية الحياة البشرية فيبنوا تاريخا يليق بالله خالقه لا بالشيطان مدمره.
واوجه النداء الى الغرقى في مستنقعات ارتهاناتهم للخارج والمصالح الشخصية والفئوية والمذهبية والممعنين في تعطيل مؤسساتنا الدستورية وقهر شعبنا ورميه في حالة الفقر والعوز وارغامه على هجرة بيته وارضه ووطنه،لكي يتقوا الله ويدركوا انهم يسيئون للوطن وللشعب ،وان مصلحة لبنان بكيانه وشعبه ومؤسساته تعلو فوق كل اعتبار آخر بل تبوخ امامه كل الاعتبارات .
تعالوا ننظر كلنا الى مريم المباركة بين النساء واشرفهن قاطبة ،كما تجمع المسيحية والاسلام ،فانها ايقونة الحرية والتحرير روحيا وانسانيا واجتماعيا وسياسيا،مريم المحررة من كل حطام الدنيا،والغنية بكل الصفات الانسانية والنعم والعطايا والجمالات الالهية ،هي مرآة نفوسنا الى ذواتنا ،وطريقنا الاسمى الى الله والى الانسان.
وختم غبطته: اجل يا مريم نحن نطوبك وانت تدخلين ابواب المجد السماوي ،ممجدة من الرسل والقديسين ،ومكللة مع ابنك ملك الملوك وسيد السادة سلطانة على السماوات والارض ،ومعك نرفع نشيد التعظيم للآب وانت ابنته ،والابن وانت امه ،وللروح القدس وانت عروسته الآن والى الابد آمين.
وبعد القداس استقبل غبطته المشاركين في الذبيحة الالهية والمهنئين بالعيد.