1. يسوع المسيح هو “المطلوب الواحد” الأساسي لكلّ إنسان. ينبغي البحث عنه وسماع كلامه. مريم ذهبت إليه مباشرة، إذ جلست عند قدميه تسمع كلامه كأوّل أمر يجب فعله. أما مرتا فسعت إليه عن طريق تكريمه بضيافة لائقة. لا تناقض بين الموقفين بل تكامل. يتّضح من كلام يسوع أنّ الأولوية هي لسماع كلامه لأنه ينير كل عمل ونشاط نقوم به. هذه القاعدة اختارها القديس بنديكتوس لرهبانيّته: صلاة وعمل. اليوم، والمجتمعات في تفكّك وضياع، والانسان محاط بأزمات وصعوبات وتساؤلات، ندرك أننا بحاجة إلى هذا “المطلوب الواحد“، يسوع المسيح كمثال بشخصه، ونورٍ هادٍ بكلامه، وقدوةٍ شافيةٍ بنعمة أسراره.
2. يسعدنا أن نلبّي دعوة سيادة أخينا المطران بولس روحانا، نائبنا البطريركي العام في نيابة صربا، ونقوم بهذه الزيارة الراعوية لرعية مار يوحنّا المعمدان في عشقوت العزيزة، بعد أن بدأناها بزيارة رعية سيدة النجاة – بيت عيد، ورعية مار غريغوريوس المنوّر – جوار البواشق. إنني أحييكم جميعًا، راعيًا كهنة ورهبانًا وراهبات ومؤمنين. وأعرب عن شكري لكم وبخاصّة لكل الذين أعدّوا هذه الزيارة والاستقبال، وعلى رأسهم راعي الأبرشية وكهنة الرعايا ورئيس المجلس البلدي والمخاتير ومجالسهم.
نحتفل معكم بالليتورجيّا الإلهية، ونرفعها ذبيحة شكر لله على جودته وعطاياه، وذبيحة تشفّع من أجلكم جميعًا، صغارًا وكبارًا، ذاكرين مرضاكم والمسنّين مع التماس الشفاء لهم وتقديس الذات. ونرفعها ذبيحة تعويض لراحة نفوس موتاكم، معربين عن تعازينا لجميع الحزانى والمصابين بألم.
3. لا يسعني في هذه المناسبة إلا أن أتذكّر بفرح العلاقات الروحية والاجتماعية والراعوية والتربوية، التي تربطني شخصيًّا بعشقوت العزيزة ورعاياها الثلاث. لقد التقينا في السابق مرات عديدة، عندما كنّت ألقي مواعظ رياضات الصوم في عهد المثلث الرحمة المطران مخايل ضومط كراهب مريمي، والتقينا معكم كأسقف في الكثير من المناسبات المفرحة والمحزنة. هذا فضلاً عن الأعداد الكبيرة من أبنائكم الذين أمّنّا لهم العلم والتربية في مدرسة سيدة اللويزة وفي جامعتها. ولا أنسى الأساتذة والإداريين من عندكم الذين تعاونت معهم في هاتين المؤسستين.
ولا بدّ من أن أذكر بالخير العلاقة بين عشقوت والرهبانية المارونية المريمية عبر دير مار سركيس وباخوس. ونذكر فضل بلدة عشقوت على الرهبانيات والأبرشيات والكنيسة بما أعطت من أساقفة ورؤساء عامّين وكهنة ورهبان وراهبات.<strong> دعوني أذكر من بينهم من كان له الفضل في توجيه حياتي الرهبانية والكهنوتية المرحوم الرئيس العام الأبّاتي بطرس فهد. وأذكر، كبطريرك، سلفي الكبير المثلث الرحمة البطريرك بولس مسعد، المعروف بحنكته وحكمته وحسن تدبيره.
إنني أحييكم من صميم القلب وأشكركم على حضوركم وصلاتكم وعلى عاطفتكم ومحبتكم وطيب الاستقبال، وعلى سخائكم في زينة الشوراع بالأعلام والصور واليافطات الترحيبية.
4. “المطلوب واحد” في حياة البشر هو يسوع المسيح، الله الحاضر بيننا ومعنا، معلّمًا وفاديًا ومخلّصًا. إنه مبتغى الشعوب وتوق الأجيال. تبقى حياة الانسان لغزًا إذا لم تلتقِ كلمة الله يسوع المسيح. نعيش في لبنان وبلدان الشرق الأوسط حالة تفكّك وضياع، مع نزاعات وحروب وممارسات عنف، فلا بدّ من البحث عن الرب يسوع والاستنجاد بكلام إنجيله الذي يعلّمنا الحقيقة ويُضيء على الأحداث الجارية، فنُحسن قراءتها. عندما كانت رياح البحر تعصف بسفينة التلاميذ، كانوا يستنجدون بالرب، فيأمر الرياح لتهدأ. فكان يسود الهدوء، ويعجب التلاميذ.
عندما زار يسوع مرة أخرى بيت مرتا ومريم بعد موت أخيهما لعازر، وأعربتْ إحداهما له ببكاء ودموع عن إيمانها بقدرته: “يا رب، لو كنت هنا لما مات أخي”(يو11: 21)، تأثّر يسوع، وأظهر مجد ألوهيّته، وأقام لعازر من الموت. بهذه الآية أعطانا الدلالة على أنّه يقيم العقول الميتة عن الحقيقة والضائعة في الكذب والازدواجيّة والتضليل؛ وأنّه يقيم الإرادات الميتة عن الخير والجودة، والمأسورة في ارتكاب الشر، والمتعثّرة في حبائله؛ وأنّه يقيم الضمائر الميتة التي تخنق صوت الله في أعماق الإنسان الداعي إلى صنع الخير وتجنّب الشر؛ وأنّه يقيم القلوب الميتة عن الحب والرحمة والمشاعر الانسانية، وتعشعش فيها الاحقاد والضغائن والبغضاء.
5. ما زال اللبنانيون يحملون في العمق الجرح الذي أصابهم بالانفجار في الضاحية الجنوبية من بيروت. إننا نجدّد معكم التعازي لأهالي الضحايا البريئة، والدعاء بشفاء الجرحى والمصابين، والتعويض لجميع المتضرّرين. ونجدّد النداء إلى تكوين وحدتنا الوطنية حول شخص رئيس البلاد، ضامن هذه الوحدة. ونطالب، بحق الدماء البريئة التي أُريقت، بتأليف حكومة جديدة في أسرع وقت ممكنوبوضع قانون جديد للانتخابات واجراء الانتخابات النيابية، وبدعم الجيش والأجهزة الأمنية، مع رفض الأمن الذاتي، والكفّ عن التراشق بالاتّهامات. إننا نحتاج حقًّا إلى كلام يعزّي ويشجّع ويجمع.
6. “المطلوب الواحد“، لكي نخرج من أزماتنا، هو البحث عن الرب يسوع، نورًا لدروبنا ولحلّ أزماتنا العائلية والاجتماعية والوطنية. إنّه، كما نقرأ في مستهل إنجيل يوحنّا “النور الذي ينير كل إنسان آتٍ إلى العا
لم. نور مملوء نعمة وحقًّا”(يو1: 17). نور المسيح يعلّم عقولنا الحقيقة التي تُحرّر وتجمع. نوره يوجّه إراداتنا إلى الخير والعدل والسلام. نوره يحرّك قلوبنا بالحب والمشاعر الإنسانية، فتدفعنا إلى البذل والعطاء.
7. هذه هي رسالة الكنيسة، برعاتها وشعبها ومؤسساتها، وهي أن تستنير بشخص المسيح وبكلامه وآياته وأفعاله. لن نجد، أيها الأخوة والأخوات، مخرجًا من أزماتنا في لبنان، إلا بيسوع المسيح. إنني أناشد المسيحيين ليدركوا مسؤوليتهم ودورهم في هذا الظرف الدقيق من حياتنا اللبنانية.
الكنيسة تجدّد نداء الطوباوي البابا يوحنّا بولس الثاني، في إرشاده الرسولي “رجاء جديد للبنان“، للمسيحيين بقوله: “إنّ التزام المسيحيين في ورشة إعادة بناء لبنان مُهمّة للغاية، نظرًا لجذور لبنان الدينية، والمسيحية بخاصّة، ولهوية لبنان الوطنية والسياسية”(فقرة1). ويضيف: “المسيح هو رجاء المسيحيين، بشخصه كراعٍ صالح، ونور حقيقي هادي، وقدرة الله الفاعلة في التاريخ”(فقرة27).
8. أننا بحاجة إلى هذا الايمان بالمسيح، لكي يقوم المسيحيون بدورهم البناّء في عملية نهوض لبنان، بالتعاون مع جميع شركائهم في الوطن. بالعودة إلى الإرشاد الرسولي المذكور نؤكّد ونشدّد بأنّ مكوّنات المجتمع اللبناني المتنوّعة مدعوّة كلها للعمل معًا على إعادة إحياء لبنان، كمهمة مشتركة(الفقرة1). في هذا الإطار، يُنتظر من المسيحيين أخذ المبادرة. فإنّ النزاع السياسي – المذهبي في لبنان، كنتيجة للنزاع الاقليمي مع روابطه الدولية، يستدعي مبادرة منّا نحن المسيحيين. إنّها المناسبة الفريدة لكي نؤدّي دورنا البنّاء، لأنّنا لسنا في نزاع مع أحد في الداخل وفي الخارج. وإذ يتكلّمون اليوم عن “ربيع عربي“، فإنّي مؤمن بأنّ هذا “الربيع” يمرّ عبر “الربيع المسيحي” من جهة، إذا عاش المسيحيون الشركة والشهادة تجاه جميع المسلمين كما دعانا البابا بندكتوس السادس عشر في الإرشاد الذي سلّمنا أياه في أيلول الماضي. كما يمرّ “الربيع العربي” عبر "الربيع اللبناني” الذي يتحقّق في تجديد لبنان في كيانه وميثاقه وصيغته ودوره النهضوي في العالم العربي.
9. إنّنا نصلّي لكي يعي اللبنانيون عامة والمسيحيون بخاصة أهمية دروهم أولاً في لبنان، ثم في العالم العربي، عبر التزامهم المحايد. أعني التزامهم قضايا العدالة والسلام وحقوق الانسان وحوار الاديان والحضارات، بعيدًا عن المحاور والاحلاف التصادمية إقليميًّا ودوليًّا. فلا ننسى أن لبنان صاحب رسالة في محيطه. فسمّاه بعضهم “لبنان النموذج الحضاري”، وبعضهم “لبنان القيمة المضافة بالتنوّع والتعددية”، وبعضهم “عامل استقرار في محيطه”، وبعضهم “ناقل أفكار الحرية والحداثة للعرب والمسلمين”. ويصفه البعض الآخر بأنّه “رئة الحرية والحداثة”، و”مصدر سلام للمنطقة”. ويرى فيه آخرون أنّه “صاحب دور كبير في تظهير الصورة الحقيقية للعالم العربي”، بل قالوا فيه أنّه “المنارة للعروبة المتنوّرة”.
أمام هذه النظرة إلى لبنان في حقيقة هويته ودوره ورسالته، لا يحقّ للمسؤولين السياسيّين أن يتركوا لبنان في “غرفة نظارة” “ورهينة” حسابات سياسية – مذهبية، ريثما ينجلي مصير الأحداث في سوريا. هذا أمرٌ معيب ومشين بحقّ لبنان واللّبنانيين، وبحقّ كرامتهم، وقيمة وجودهم التاريخي الفاعل في الأُسرتَين العربيّة والدوليّة.
10. أجل، “المطلوب واحد”. وهو يسوع المسيح بالنسبة إلينا كمسيحيّين. إنّه مطلوبنا الأساسي الذي نبحث عنه لكي نستنير بشخصه وكلامه وبتعليم كنيسته، فنهتدي إلى إيجاد الحلول لأزماتنا الداخلية. “والمطلوب واحد” بالنسبة إلينا كلبنانيين هو ايضاً لبنان – الوطن ولبنان-الرسالة.
ويجدر أن نعلن هذا الإيمان ببعدَيه من هنا، من عشقوت من قلب كسروان، من هذه المنطقة التي تحتلّ مكان القلب في لبنان، والتي أعطته وجوهاً تاريخية من أبنائه، ساهمت إسهاماً أساسياً في إرساء أُسس الكيان اللّبناني، بفضل ثقافتهم المسيحية.
11. يا ربّ، إليك نرفع صلاتنا، بشفاعة أمّنا مريم العذراء ومار يوحنا المعمدان، من أجل أن يلتزم اللّبنانيون، مسيحيون ومسلمون، بإداء دورهم المسؤول في إعادة إحياء لبنان، بكيانه ومؤسساته الدستورية، لكي يتمكّن من أن يكون عامل استقرار وسلام في عالمنا المشرقي. واقبل يا ربّ صلاتنا من أجل إحلال السلام في سوريا ومصر والعراق، بإيقاف دوّامة العنف والحرب والارهاب، واعتماد الوسائل السلميّة للبلوغ إلى سلام عادل وشامل ودائم. فنرفع المجد والشكر للآب والابن والروح القدس، إلى الأبد، آمين.