"لمّا اعتمد يسوع، وفيما كان يُصلّي، إنفتحت السماء"

عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي – عيد الدنح المجيد، أو الغطاس – بكركي، الاثنين 6 كانون الثاني 2014

Share this Entry

1. تحتفل الكنيسة اليوم بتذكار معمودية يسوع على يد يوحنّا، وقد نزل إلى مياه نهر الأردنّ، فسمّيَ عيد الغطاس. وبمناسبة المعمودية كانظهور الله الثالوث وإعلان بنوّة يسوع الإلهية، فسُمّيَ عيد الدنح المشتقّ من اللفظة الآرامية – السريانية. وفي الواقع، بعد أن اعتمد يسوع،وفيما كان يصلّي، إنفتحت السماء، ونزل عليه الروح القدس في صورة جسدية مثل حمامة، وجاء صوتٌ من السماء يقول: “أنت هو ابني الحبيب، بك رضيت”(لو3: 22).

2. إحياءً لهذا التذكار، تُقيم الكنيسة رتبة تبريك الماء، بحيث يصبح، بحلول الروح القدس عليه، قوَّةً إلهيّة تكون لصحّة النفس والجسد، ولفيض الرحمة الإلهية ونعمِها وبركتها على الأشخاص والبيوت والأماكن حيث يُرَشّ هذا الماءُ المبارك أو يَشرب منه المؤمنون أو يتبرّكون، كما نُصلّي في هذه الرتبة. لا يحلّ هذا الماء المبارك محلَّ الأسرار، ولاسيما سرِّ التوبة والقربان، التي يقدّسنا الروح القدس، بل الماء المبارك يؤهّل نفوسنا وقلوبنا لقبول نِعم الأسرار والبركات الإلهية، الفائضة كلّها على الكنيسة من موت المسيح وقيامته (راجع كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1670).

من أجل دوام هذه النِعم والبركات، يتبادل المؤمنون والمؤمنات الدعاءَ والتمنّيات في هذا العيد “بدايم دايم“. ونحن بدورنا نبادلكم إيّاها، راجين للجميع في لبنان والشرق الأوسط وبلدان الانتشار دوام النعمة التي تقدّسنا وتشفينا؛ ودوام البركة السماوية التي تفيض الخير والسلام على كلِّ إنسانٍ وشعب من فيض محبة الله ونعمته. وإنّا نعبّر عن تهانينا وتمنّياتنا للكنائس الشرقية الشقيقة التي تحتفل بعيدَي الميلاد والظهور معًا، وخاصّة للكنيستَين الشقيقتَين الأرمنية والقبطية الأرثوذكسيّتَين، حسب العادة القديمة السابقة للقرن الرابع. نرجو لها ولأبنائها، رعاةً ومؤمنين، كلَّ خير وبركة وازدهار، ودوامَ نجاح شهادتها للمسيح التي تُبدّل وجه العالم.

3. كان يسوع بعمر ثلاثين سنة، عندما طلب المعمودية من يوحنّا المعمدان أتاه ماشيًا مع الخطأة التائبين ملتمسي الغفران، وهو من دون خطيئة، لكي يحمل خطايا جميع البشر، ويكفّر عنها بموته على الصليب، ويمنح الحياة الجديدة لكلّ إنسان بقيامته.

لم يكن يسوع بحاجة إلى معمودية يوحنّا، لأنّه بريء من كلّ خطيئة، فهو الإله المتجسّد. ولم يكن بحاجة إلى توبة عن خطايا، ولا إلى غفران، لكونه هو “غفران جنسنا العظيم”. لكنّه، عندما تقدّم مع الخطأة، على تنوّع خطاياهم، لقبول معمودية التوبة، أراد أن يتضامن معهم، لا مع خطاياهم. فحملها وقبلها ككاهن يفتديها، ودشّن رسالته كعبد الله المتألّم، الذي تنبّأ عنه آشعيا قائلاً: “لقد حمل آلامنا واحتمل أوجاعنا. طُعن بسبب معاصينا، وسُحق بسبب آثامنا. أُنزل به العقاب من أجل سلامنا، وبجرحه شُفينا… كحمل سيق إلى الذبح ولم يفتحْ فاه” (أش 53: 4و5و7).

   ويوحنا الذي امتلأ هو أيضاً من الروح القدس، بحلوله على يسوع المعتمد، تنبّأ في اليوم التالي، عندما رأى يسوع مارّاً، بأنّه هو “حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم” (يو1: 29).

في مبادرة يسوع بقبول المعمودية من يوحنّا، عبّر عن قبوله بمعمودية الموت من أجل غفران خطايانا. فجاء صوت الآب من السماء يعلن هذا القبول، ويعلن أنّ يسوع هو ابنه الحبيب. فانفتحت السماء، التي كان قد أغلقها آدم وجميع الخطأة، وتقدّست المياه بنزول يسوع إليها، وعاد الروح يخيّم عليها ليجعلها وسيلة للخلق الجديد (راجع كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 535-536).

4. تذكّرنا معمودية يسوع بمعموديتنا التي ألبستنا المسيح لكي نعيش حياة جديدة به، ونشهد له بأعمالنا، على ما كتب بولس الرسول لأهل غلاطية: “أنتم الذين اعتمدتم بالمسيح، قد لبستم المسيح”(غل 3: 27). فأشركنا بكهنوته المثلّث الأبعاد: النبوي والكهنوتي والملوكي.

بالبعد النبوي، يتقبّل المسيحيّ الإنجيل وكلام الله، ويجسّده في أعماله ومواقفه، جاعلاً منه ثقافة جديدة، تغني ثقافة مجتمعه بالقيَم الإنجيلية والإنسانية والاجتماعية. وهذا ما فعله المسيحيون في لبنان وهذا الشرق منذ ألفَي سنة. واليوم هم مدعوّون لمواصلة ثقافة الأخوّة والسلام وسط العداوة والحرب، وثقافة العدالة وكرامة الإنسان وسط الظلم والتحقير.

بالبعد الكهنوتي، يشارك المسيحي في ذبيحة المسيح الخلاصيّة، ويضمّ إليها قرابين أعماله الصالحة، وأفراحه وأحزانه، آماله وآلامه، التي يبادلها الله بالنعم والبركات. فليدرك المسيحيون حيث هم أنّهم مدعوّون لمشاركة المسيح في عمل الفداء وتحرير الإنسان والشعوب من عبودية الخطيئة والشرّ. إنّ آلامهم التي يتقبّلونها كامتداد لآلام المسيح الخلاصيّة، تصبح آلام مخاض، يُولَد منها مجتمع جديد. لقد كانت دماء الشهداء والآلام، على مجرى تاريخ الكنيسة منذ عهد الرسل، في أساس ازدهار المجتمعات بالقيَم المسيحية.

بالبعد الملوكي، ينتمي المسيحي إلى مملكة المسيح المعروفة بملكوت الله، البادئ في كنيسة الأرض. إنّها مملكة الحقيقة والمحبة والعدالة والحرية التي تقدّس الإنسان والعالم. المسيحيون مدعوون لينشروا هذه القيَم في مجتمعاتهم ويجعلونها أكثر إنسانية ونموًّا ورقيًّا.

6. تذكّرنا رتبة تبريك الماء بأنّنا وُلدنا ثانيةً من جرن الم
عمودية، من الماء والروح، إنسانًا جديدًا، يتخلّق بأخلاق المسيح، كما يُوصي بولس الرسول(راجع فيل 2: 5-8). في الماء أغرقنا حالة الخطيئة وغسلنا نفوسنا وقلوبنا، وبالروح القدس قمنا لحياة جديدة، وأصبحنا بالمسيح، ابن الله، أبناء وبنات لله بالابن الوحيد. وبهذه الصفة نبني الأخوّة والسلام فيما بيننا، ونتقاسم خيرات الأرض، ساعين إلى إحلال العدالة والسلام في مجتمعاتنا.

للثالوث المجيد الآب والابن والروح، الذي ظهر يوم معمودية يسوع، وبه وُلدنا خلقًا جديدًا من الماء والروح، نرفع كلّ مجد وتسبيح، الآن وإلى الأبد، آمين.

Share this Entry

Bechara Boutros El-Rai

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير