إنّ المجمع الذي أقرّ بــ " ألوهيّة يسوع " ، هو مجمع نيقيّا (325) . وهذا المجمع كان خلافا لبدعة آريوس ، وردّا عليها . فكانت نقطة الإنطلاق " إنسانيّة يسوع " . والسؤالُ كانَ : إلى أيّ حدّ هذا الإنسان هو الله؟ ، فأقرّ المجمعُ بإنْ هذا الإنسان هو الله. ولمَن يريدُ توضيحات ٍلدراسة حول علم المسيح ( الكرستيولوجيّا ) : فالخطاب اللاهوتيّ في مجمع نيقيّا ، هو خطابٌ لاهوتيّ تصاعديّ (أي يعتمدُ على الأسلوب الصاعد ) ، معنى هذا ، إنه يصعدُ من الإنسان إلى الله (من الإنسانيّة إلى الألوهيّة) ، أي ينطلقُ من أحداث يسوع الواقعيّة البشريّة ، من أعماله وأقواله ومعجزاته وموتهِ ، إلى قيامته (وهنا في سرّ القيامة لحظةٌ لا زمنيّة تبدّل كلّ شيء في حياة يسوع وتكشِفُ ما كانَ مخفيّا في سرّ تدبير الله الأزليّ ، وسوف ، من خلال سرّ القيامة ، يدرك الرسل أن حياة يسوع الناصريّ ، لم توقّف عندَ موتهِ فقط ، بل ستأخذ منحىً آخرَ أبعدَ بكثير ، فحياة يسوع وقوسها ، لا تبدأ بالولادة والموت فقط ، بل بالقيامة أيضا . أما الأسلوب الآخر والخطاب الآخر ، هو الخطاب والأسلوب التنازليّ ( النازل ) ، فكان هذا في مجمع أفسس ( 431 ) ، فهو على خلاف مجمع نيقيّا ، إذ ينطلقُ من " ألوهيّة المسيح - The divinity of Christ ) التي أقرّ بها مجمع نيقيّا ، وتساءَل : ما معنى أن يُصبح الله إنسانا ؟

كيفَ تمّ هذا الإتحاد بين الألوهيّة والإنسانيّة ؟

فألوهيّته لا شكّ فيها (نيقيّا ) ، وإنسانيّته كذلك ؛ لكن السؤال المطروح هو : كيفيّة " الإتحاد بين الحقيقتين أو الطبيعتين؟

إذن ، من يقرأ معنا هذه الشروحات ، سيُدرك أنّ حركة نيقيّا هي حركة الأناجيل الإزائيّة ، والإعلان الأوّل ، الحركة الصاعدة : الإنطلاق من يسوع الإنسان ، للوصول إلى المسيح الإله.

أمّا حركةُ مجمع أفسُس ، فهي حركةُ إنجيل يوحنا ، في قولهِ " الكلمةُ صارَ جسدًا " يو 1 : 14 . وبما أنّ إنجيل يوحنّا أتى بعد الأناجيل الإزائيّة مكمّلا إيّاها ، كذلك أتى مجمع أفسس التنازليّ بعد مجمع نيقيّا التصاعديّ مكمّلا إيّاها . وكلا المجمعان يرسمانِ دائرة الإيمان المسيحيّ ، كما وردت في العهد الجديد : من الإنسان إلى الله / من الله إلى الإنسان .

وهنا ، في هذه النقطة ، يجبُ أن نقول ؛ إنه لا يمكنُ فصلُ الحركتين الصاعدة والنازلة ، عن بعضهما البعض ، كما ينفصلُ المكّوك الفضائي عن المحطة الفضائية ويصير مستقلا ويتيه في الكون الشاسع . كلتا الحالتين تستدعي الواحدة الأخرى، والربطُ ضروريّ لفهم سرّ المسيح . والفصل ، إن كان النازلة عن الصاعدة والعكس ، سيؤدّي إلى : إمّا تشويهُ حقيقة إنسانيّة يسوع ، أو تشويه الألوهيّة ، أو وضع يسوع في مصاف أحد المعلّمين الأخلاقييّن ، أو أحد المُصلحين الإجتماعييّن ، أو كباقي الأنبياء ( وتكذيب النبوءات !) .. سوف لنْ نعيَ حقيقة المسيح إن جعلنا ، في فهمنا لهُ ، الحركتان متضاربتان!

الخطر الذي يُهدّد كلتا الحركتين ، يكمنُ في تخفيفِ أو تعقّل سرّ التجسّد الذي يظلّ دائمًا (عثار) للعقل البشريّ ، والحكمة البشريّة . فأمام هذا العِثار ، شكَّ " المظهريّون " في إنسانيّة يسوع ، و " الأبوليناريّون " في نفس يسوع العاقلة ، و " الآريوسيّون " في ألوهيّة يسوع. وهناكَ أيضا ، شكّ نسطوريوس ، خاصّة في قضية التجسّد ، فهو لم يشكّ لا في ألوهية يسوع (نيقيّا ) ، ولا في إنسانيّة يسوع ، مشكلة نسطوريوس هي : كيفيّة إتحاد كائنين كاملين ( الله الكلمة – الإنسان يسوع ) !؟

سؤال نسطوريوس ، هو أنطولوجيّ ( متعلّق بالكيان ) ، ولكن تساؤله دينيّ لا كيانيّ فقط ، إذ إنه يتساءَل : هل نقبلُ أن يعاني " كلمة الله " ، إهانات الجسد والولادة الزمنيّة والموت على الصليبْ؟ (هذا سؤال وحيرة جميع الأشخاص الذين لا من الديانات غير المسيحيّة ) .. هذا السؤال ، دينيّ . يثيرهُ عثارُ التجسّد ، وكلّ ما طرأ على (الله الكلمة ) من جرّاء تجسّده ( ونحن نقول : إن كان الأمرُ هكذا في نظر المسيحيين أنفسهم ، فكيفَ بالأحرى في نظر المسلمين )!

أريدُ أن أذكرَ نقطة مهمّة أيضا تخصّ الموضوع ، التي سبّبت في القرون الآولى إلى القرن الخامس تقريبًا ، مسائلَ معقّدة في فهم سرّ التجسّد ، والطبيعتين في شخص يسوع ، وكيفيّة الإتحاد بين الله والإنسان ، هي أنّ المسيحية الفتيّة (المبكّرة ) أو الكنيسة الفتيّة الآولى ، كانت في مواجهات ٍ ، وإحتدامات ٍ ، وصراعات ٍ وتصادمات ، مع المبدأ والمنطق اليوناني ، الفلسفة اليونانيّة .. تصادمات مع أفكارها حول " اللوغس – الكلمة " ، وحول حقيقة الله اللامتناهية ، اللامتغيّرة ، اللا متحرّك ، والغير قابل للتألم ولا للتبدّل .. هذه كانت نظرة اليونان والمنطق اليونانيّ لله .. لهذا ، ما كانت تستطيعُ المسيحيّة ، بسبب إدّعائها الشامل والأخير ، أن تتجنّب هذا التصادمَ والمواجهة مع إدّعاء الفلسفة اليونانيّة عن الكلمة والكيان . الموضوع هنا ، ليس تخلّي المسيحيّة عن ذاتها ، بل بالعكس : تأكيد الذات أمام صراعات ٍ كان لا بدّ لها أن تتضارب وتتناقض مع ما كانت تستدعيه الفلسفة اليونانيّة ومنطقها وأفكارها .

العقيدة ، في نظر ممثّلي تاريخ العقائد الليبرالييّن ، ولا سيّما هارناك ، كانت من عمل الذهنيّة اليونانيّة في المجال الأنجيليّ ؛ فالإنجيل والعقيدة ، ليسا فقط موضوعًا معطىً مع نموّه الضروريّ . لقد جاء عنصرٌ جديد ووضع نفسه بينهما . كما قلنا هو " حكمة الفلسفة اليونانيّة العالميّة " . ولقد أرادَ (هارناك ) ، بتتبّع النموّ العقائديّ للمسيحانيّة (علم المسيح ) أن يجد ، من جديد ، ثقة يس وع البسيطة بأبيه . ومنذئذ ، إكتسبت كلمتا " الهلينيّة ، ونزع الهلينيّة " حقّ الدخول ككلمتين لا بدّ منهما ، حتى في اللاهوت الكاثوليكيّ.

في هذه النقاط ، (وأعتذرُ جدّا لإنّ هذه الحلقة أطول من الحلقات السابقة ) ، يقولُ اللاهوتيّ الألمانيّ كاسبر ، في كتابه (يسوع المسيح ) ، إنه يجبُ أن نكونَ دقيقينَ أكثر في طرح (هارناك) هذا .. فقد لاحظَ زيبرغ ، بحقّ " إن النزعة الهلينيّة أو الرومانيّة أو الجرمانيّة " ليستْ هي التي تُفسِد ، بحدّ ذاتها المسيحية ، وما هذه الصيغُ سوى إثبات أنّ الديانة المسيحيّة ، في العصور المعنيّة ، قد كانت موضوع تفكير وإستيعاب ٍ بطريقةٍ فريدة ، وإنها صارت أحد عناصر ثقافة وحضارة الشعوب ".

الآريوسيّة كانت كذلك ، نزعة ً هلينيّة غير مشروعة ، تُذوّب المسيحيّة في " كونيّة وأخلاقيّة " ؛ حتى قدّمت نيقيّا ما يضادّ النزعة الهلينيّة . ففي العقيدة ، ليس المسيحُ مبدأ العالم بل مبدأ الخلاص. وكان التمييز الذي أقامهُ المجمع القسطنطينيّ بين الطبيعة والأقنوم (الشخص ) ، يعني ، مبدئيّا ، حسمُ للجوهريّة اليونانيّة في إتجاه فكر شخصيّ ، فالمدى الأقصى والأسمى لم يعُد الطبيعة ، بل الشخص.

المطران درويش في عيد القديس انطونيوس : الإنقسام في الكنيسة وليد انانيتنا جميعاً

لمناسبة عيد القديس انطونيوس ترأس راعي ابرشية الفرزل وزحلة والبقاع للروم الملكيين الكاثوليك المطران عصام يوحنا درويش قداساً احتفالياً في دير القديس انطونيوس الكبير في زحلة، عاونه فيه الآباء وسيم المر وحنا كنعان، بحضور حشد كبير من المؤمنين.