"هذا هو حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم" (يو 1: 29)

عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي – الأحد الأول بعد الدنح المجيد – بكركي، الأحد 12 كانون الثاني 2014

Share this Entry

1. غداةُ معموديةِ يسوع في نهر الأردنّ، وقد حلَّ الروحُ القدس عليه بشكلٍ منظور، وامتلأ منه يوحنّا المعمدان، تنبَّأَ يوحنّا بأنّ يسوعَ هو “حملُ الله الذي يحمل خطيئة العالم“(يو1: 29). فإذ رأى يسوع ماشيًا مع الخطأة ليقبَلَ منه معموديّةَ التوبة، ثمّ سمع الصوتَ الإلهي يقول: “هذا هو ابني الحبيب“(لو 1: 34)، أدركَ يوحنّا أنّ يسوع لم يكن مُحتاجًا لمعمودية التوبة، لأنّه بريءٌ من كلِّ خطيئة؛ وأنّه تضامنَ مع الخطأة، لا مع خطاياهم؛ وأنّه حَمَلَ خطاياهم، كحملِ الفصح القديم، لكي يكفّرَ عنها ويفتديَها بموته على الصليب. أدرك يوحنّا أنّ يسوعَ هو حملُ الفصح الجديد. إنّنا نلتمس من الحملِ الإلهي مغفرةَ خطايانا بنعمة سرِّ التوبة والغفران الفائضة من موته وقيامته.

2. يسعدني أن أُرحّبَ بكم جميعًا، وبخاصّة “بجمعيّة السفينة – بيت أمّ النور، الآتية من البترون العزيزة. ونُحيّي هيئتَها الإداريّة وأعضاءَها الحاضرين معنا. تُعنى هذه الجمعية بتأهيل الأخوة المعوَّقين وذوي الحاجات الخاصّة، وبتعزيز قدراتهم ومهاراتهم الإبداعية والإنتاجية، بغيةَ اندماجهم الفاعل في المجتمع. ويتناول هذا التأهيلُ النواحي النفسية والتربوية والاجتماعية والحركية – الجسدية، بالإضافة إلى النشاط المسرحي والرياضة والعلاج الفيزيائي. وأنشأتْ الجمعية لهم، مشكورة، مشاغلَ وورشَ عملٍ متنوّعة، وتنظّم معارضَ من أجل تسويق منتوجاتهم.

إنّها مبادرة تستحقُّ كلَّ التقدير. نشأت من المجتمع الأهلي، وتنخرط في خط إنجيل المسيح الذي يسمّي المحتاجين والفقراء والمتألّمين “أخوتَه الصغار”(متى 25: 40)، ويعتبرُ أنَّ خدمةَ الرحمة تجاههم مفتاحُ السماء: “تعالَوا يا مبارَكي أبي، رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ إنشاء العالم… لأنّي كنتُ جائعًا، عريانًا، غريبًا، مريضًا فعدتموني”(متى 25: 34 و 36).

كما نُرحِّب بجمعية مار منصور دي بول – فرع جونيه، ونُقدِّر ما تقوم به من خدمة في سبيل إنجيل المسيح تجاه الفقراء.

 3. “هذا حملُ الله“. إنَّ صورة الحملِ مأخوذة من ممارسة الفصح في العهد القديم؛ كما نجده في سفر الخروج (12: 1-14؛ 21-28) وفي سفر الأحبار (22: 19). وهو حملٌ ذكر لا عيب فيه، تأكله كلُّ عائلة حملَ فصحٍ للرب ، والباقي تقدّمه ذبيحة شكر لله.

هذه الصورة كانت رمزًا تحضيريًّا لحمل الفصح الجديد الذي هو المسيح، وقد ذُبح على الصليب، حاملاً خطايا الجنس البشري، مُكفّرًا عنها لدى العدالة الإلهية، ومفتديًا بموته كلَّ إنسان يولد في العالم، ومُقدِّسًا آلام البشر بآلامه. فأعطاها بُعدًا لاهوتيًّا وقيمة خلاصيّة. وهكذا تماهى مع كلِّ متألّم في جسده ونفسه وروحه. وأعلن أن كلَّ خدمةِ محبّة ورحمة تجاه أي متألّم في جسده ونفسه وروحه إنّما هي خدمة للمسيح نفسه: “ألحقّ أقول لكم: كلّ ما فعلتم لأحد أخوتي هؤلاء الصغار، فلي فعلتموه”(متى 25: 40).

4. دعا قداسة البابا فرنسيس في إرشاده الرسولي “فرح الانجيل“(24 تشرين الثاني 2013) المسيحيين إلى وعي هذه الخدمة ، كهويّتهم الخاصّة ورسالتهم، وإلى الالتزام بها في الأفعال والممارسات. وذكّرَ بأنّ الكنيسة إتّخذت خيار الفقراء، كصيغة خاصّة لأولوية ممارسة المحبّة المسيحية، كما يشهد كلُّ تقليد الكنيسة. فكانت المدارس العادية والمجّانية والتقنيّة،والتأهيلية، والجامعات والمستشفيات؛ وكانت دُور الأيتام والمسنّين والمهملين والمعوَّقين؛ وكانت مؤسّسات الكنيسة الخيرية والانسانية المتنوّعة. ويُدرك أبناءُ الكنيسة وبناتُها أنّهم في خدمة المحبّة والرحمة بشكلها الدائم عبر مؤسّسات الكنيسة، إنّما يسعون ليتخلّقوا بأخلاق المسيح (فيل 2: 5)، الذي قارب الفقراء والمتألّمين والمحتاجين.

في ضوء هذا الواجب، المسيحي الانساني، نضمُّ صوتنا إلى صوت الرؤساء العامّين والرئيسات العامّات لنطالب الدولة بتسديد المستحقّات المتوجّبة والمتراكمة منذ سنوات على الخزينة لصالح هذه المؤسّسات الاستشفائية والتربوية ودور اليتامى والمدارس المجّانية، فيما الفقر يتفاقم والحاجات الاجتماعية والانسانية تتكاثر، والدولة تهملهم، والمسؤولون يصمّون آذانهم عن سماع صراخهم. ونطالب الدولة معهم بإعفاء هذه المؤسّسات من الضرائب والرسوم، وإعادة رخص المدارس المجّانية من أجل تلبية الحاجات المتزايدة، بسبب الأزمة الاقتصاديّة والمعيشيّة وتفاقم الدَّين العام وتعاظم حالات الفقر. اليوم الدولة مدعوّة لإيجاد هذه المدارس المجّانية وتعزيزها وتقويتها، رحمةً بأجيالنا الطالعة.

5. علّم  البابا بندكتوس السادس عشر أنّ “خيار الكنيسة للفقراء هو من صلب الايمان المسيحي بهذا الإله الذي صار فقيرًا لكي يُغنيَنا بفقره”. وأضاف: “الفقراء والمتألّمون يُشاركون في مفهوم الإيمان، لكونهم يعرفون المسيح المتألّم من خلال آلامهم. إنّهم يعلّموننا جوهر الإنجيل. أمّا الكرازة الجديدة بالإنجيل فتدعونا لكي ندركَ القوّة الخلاصيّة التي يكسبونها بآلامهم. علينا، يقول البابا فرنسيس، أن نكتشفَ المسيح فيهم، ونحملَ قضيّتَهم، ونكونَ أصدقاءهم، ونسمعهم ونفهمهم، ونتلقّى الحكمة السرّيّة التي يريد الله أن ينقلها إلينا بواسطتهم”(فرح الانجيل 198). ويتابع: يأمرنا اللهُ جميعًا، ولاسيما أصحاب القدرات والمسؤولين في المجتمع والدولة بأن نسمع صوت الفقراء والمتألّمين، لأنّ صوتهم يرتفع إليه، ف
يرى بؤسهم ومذلّتهم، ويطالبنا بالعدالة والمحبة والرحمة تجاههم، ويقول لضمائرنا: “أعطوهم أنتم ليأكلوا”(مر 6: 37؛ الفقرتان 187-188). كم تألّمنا في العمق وشعرنا بالعار عندما رأينا مشاهد الجوع والحرمان في مخيّم اليرموك، حيث أطفالٌ ومسنّون يموتون جوعًا، ومئاتٌ مهدّدون بخطر الموت بسبب فقدان التغذية والطبابة وأبسط مقوِّمات العيش. ويدعونا الرب لنتحرك جميعُنا بكلِّ السبل لإنقاذهم!

6. “حملُ الله الذي يحملُ خطيئة العالم” هو يسوع المسيح الذي حمل مع صليبه خطايا جميع البشر، وغسلها بدمه، وصالح الله مع البشرية بأصلها، وبقيامته انتصر على الخطيئة والموت الأبدي، وأعطى الحياة الجديدة لكلّ تائب وتائبة. فجعل المؤمنين به والمؤمنات “سفراءَ للمصالحة“(2كور 5: 20). إنّ أشرف دعوة دُعينا إليها نحن المسيحيين هي خدمةُ المصالحة. فمَن يختبرها مصالحةً حقيقيّة مع الله بالتوبة، ومع ذاته بإعادة بهاء صورة الله إليها من خلال ارتداد القلب بتوبةٍ صادقة، هذا يُصبحُ فاعلَ مصالحة وسفيرَها. مَن ينالُ المصالحة من الله مُلزمٌ بمنحها للمسيء إليه شخصيًّا. هذا ما نُصلّيه في الأبانا التي علّمنا الربّ يسوع: “إغفر لنا خطايانا، كما نحن نغفر لمن خطئ إلينا”(متى 6: 12).

7. أهمّية المصالحة أنّها تُخرجنا من أسر نزاعاتنا، وتولّد فينا تطلّعًا إلى آفاقٍ جديدة. كتب البابا فرنسيس في رسالته العامّة “فرح الإنجيل“: “أمام النزاعات ونتائجها الوخيمة القتّالة على الأبرياء وعلى الشعب، لا نستطيع أن نقف بعيدًا ونترقّب، ونغسل أيدينا، بل علينا أن نحوِّل النزاع إلى واقع جديد، بروح تطويبة الإنجيل: “طوبى لصانعي السلام” (متى 5: 9). النزاعات الراهنة عندنا تدعونا إلى بناء الشركة في التنوّع والاختلاف، والصداقة الاجتماعية، والعمل معًا على أن نصنع من التاريخ مساحةَ عيش مشترك، تُولّد فيه النزاعاتُ واقعاً جديداًمن الوحدة والتعاون والتكامل؛ ما يقتضي منّا جميعًا العمل على تربية أشخاصٍ نُبلاء وشجعان من أجل مجتمعٍ أفضل. يذكّرنا البابا فرنسيس أنّ المسيح جمع في شخصه السماءَ والأرض، اللهَ والإنسان، الزمنَ والأبدية، الجسدَ والروح، الشخصَ والمجتمع، وبيَّن لنا أنَّ الوحدة أشرف بكثير من النّزاع. فصَنَعَ السلام، وسلَّمنا إيّاه لنصنعَه سلاماً عائليّاً واجتماعيّاً ووطنيّاً، بالوحدة والمصالحة (225-230).

8. ما أحوجَ مجتمعَنا وبلدانَ هذا الشرق إلى مصالحة وبناء الوحدة في التنوّع، والخروجِ من حالة النزاعات، ومن التسبّبِ بفلتان الأمن والاعتداء على حياة المواطنين وممتلكاتهم. فالبقاء في النزاع انغلابٌ له وقتلٌ لطموحات الإنسان ولتطلّعاته إلى الأفق الجديد. الخروج من النزاعات بطولةٌ وحياة، والاستمرارُ فيها ضعفٌ وفناء. جميلٌ أن نتميَّز بثقافة حملِ الله الحامل خطايا العالم“، فنحملَ أخطاء بعضِنا البعض، ونتلفَها بالمحبة والتفاهم والمصارحة، ونتوّجَها بمصالحة شاملة. الأبطالُ يُصالحون على أساس الحقيقة والعدالة والمحبة، أمّا الضعفاء فيهربون من المصالحة، مُبرّرين أنفسهم بالاتّهامات والتخوينات.

أيّها الربُّ يسوع، يا حمل الله، هبنا نعمةَ المصالحة والشجاعة على إجرائها وعلى بناء الوحدة، فيما جميع الكنائس تستعدّ لأسبوع الصلاة من أجل وحدتها ووحدة المجتمعات والأوطان. بالوحدة والمصالحة نطوي صفحات الماضي، ونرسمَ خط المستقبل الأفضل. لك المجد والشكر إلى الأبد، آمين.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير