يوحنا المعمدان، الذي أعد ليسوع، ساورته الشكوك عندما رأى أن يسوع لا يقوم بأعمال جبارة. ولذا يوجه له يسوع، بعد أن أرسل تلاميذ ليسألوه إذا كان هو الآتي أم يجب انتظار آخر، هذه الكلمات: “العمي يبصرون والعرج يمشون والبرص يطهرون والصم يسمعون والموتى يقومون، وطوبى لمن لا يشك فيّ”.
هذا وهناك حادثة نموذجية وهي اعتراف بطرس بألوهية المسيح في إنجيل متى 16. يسأل يسوع التلاميذ ما تقول الناس أنه هو، فتأتي الأجوبة مختلفة: “بعضهم يقول: هو يوحنا المعمدان، وبعضهم الآخر يقول: هو إيليا، وغيرهم يقول: هو إرميا أو أحد الأنبياء”. ولكن هذه الأجوبة لا تصيب الجوهر. فيسوع لا يعتبر نفسه وليس واحدًا من الأنبياء. ولهذا يسأل التلاميذ: “ومن أنا في قولكم أنتم؟”. فيأتي جواب بطرس: “أنت المسيح ابن الله الحي”.
بطرس يعترف بلاهوت يسوع. ولهذا ينال مديح المسيح. ما المشكلة إذاً؟
يكفي أن نقرأ بعض الآيات التالية لنفهم ما مشكلة بطرس!!
مشكلة بطرس أن اللاهوت بالنسبة له هو القوة، السيطرة، السلطان. فكرة اللاهوت البشرية هذه ليست من فكر يسوع، بل من الفكر البشري والمنطق البشري… فلنترك الكلمة للإنجيل المقدس، فبعد هذا الاعتراف الذي يجعل من بطرس رأس الكنيسة، يتحدث يسوع عما سيجري له لاحقًا. يقول النص: “وبدأ يسوع من ذلك الحين يظهر لتلاميذه أنه يجب عليه أن يذهب إلى أورشليم ويعاني آلاما شديدة من الشيوخ وعظماء الكهنة والكتبة ويقتل ويقوم في اليوم الثالث. فانفرد به بطرس وجعل يعاتبه فيقول: ’حاش لك يا رب ! لن يصيبك هذا!‘. فالتفت وقال لبطرس: ’إنسحب! ورائي! يا شيطان، فأنت لي حجر عثرة، لأن أفكارك ليست أفكار الله، بل أفكار البشر‘.
يسوع أكثر ضرواة مني في حُكْمِه! أنا قلت “فكر بشري”، يسوع يتحدث عن فكر “شيطاني”!!
كيف تجلى اللاهوت في يسوع؟
يكفي أن نقرأ الأناجيل لنفهم كيف يحول المسيح فهمنا للاهوت. يشككنا لأننا نفكر بطريقة بشرية (بل شيطانية برأيه) ولكن من يفتح قلبه يُرفع إلى صفاء اللاهوت المشع في المسيح.
ولكن، فلننظر إلى هذا الأمر في نص للقديس بولس يعلق عليه عالم الكتاب المقدس الكبير المرحوم كارلو ماريا مارتيني (Carlo Maria Martini). ينطلق مارتيني من نص رسالة بولس إلى أهل فيليبي الفصل الثاني بحسب الترجمة الإيطالية التي تقول أن المسيح “رغم طبيعته الإلهية الله لم يعد مساواته لله غنيمة. بل أخلى ذاته متخذا صورة العبد”. يا للشك! الله يأخذ جسد خليقة! لهذا يتحدث يسوع عن ذاته بالإنجيل كـ “حجر عثرة”. لأن الكثيرين لن يستنيروا بنور الحب هذا وسيرفضون تجسد الله.
ولكن فلنعد إلى تعليق مارتيني. كما تعلمون، نصوص العهد الجديد مكتوبة باليونانية، ويجب الرجوع إلى ذلك النص لفهم الأصل. ويوضح مارتيني أن كلمة “رُغْم” ليست موجودة في النص اليوناني. كلمة “رغم” التي يضيفها المترجم تولد نوعًا من تباين. ولكن بالحقيقة، نص بولس يقول غير ذلك. بولس لا يقول أنه رغم طبيعته الإلهية اختار التجسد والتواضع. ماذا يقول إذا؟ – يقول أن لطبيعته الإلهية الفضل بالإنحدار. وكأن الترجمة الصائبة هي: بفضل طبيعته الإلهية أخلى ذاته.
ماذا يقول لنا كل هذا؟
يقول لنا أن ما يميز اللاهوت بحسب ما كشفه لنا المسيح ليس التغطرس بل التواضع، ليس التجبر وشموخ الأنف، بل انحدار الخالق نحو خليقته. طبع اللاهوت الأساسي هو المحبة وليس الأبهة. ليس التنزه البوهيمي بل القرب الرحيم. في المسيح ظهر وجه الله الحق، “عمانوئيل” أي ألله معنا، مع الإنسان، مع كل إنسان، معك ومعي! له المجد إلى الأبد. لاهوت المسيح يظهر هنا. وغلبة القيامة التي كان المسيح بكرها وباكورتها تبين أن هذا الضعف هو الأقوى، لأن ضعف الحب هو قوته التي تفيض نورًا وحياةً.