1. سمع تلميذا يوحنا منه كلمة عن يسوع وهو مارّ على الطريق: “ها هو حمل الله” (يو1: 36). وللحال تبعا يسوع من دون أيّ كلام. كانت المبادرة منهما كافية لكي يبدأ يسوع حواره البسيط: “ماذا تريدان”، ويأتيه جواب من قلبَيهما التائق إلى معرفته: “يا معلّم أين تقيم؟“، أي أين تعلّم؟ ما يعني أنّهما يريدان أن يتتلمذا له ويتبعاه في رسالته. فكانت الأمثولة الأساس كلمتَين: “تعالا وانظرا”. مدرسة المسيح هي ذاته، نذهب إليه كشخص نحبّه ونبحث عن تعليمه لكي نستنير في طريق الحياة.
نُصلّي اليوم لكي، في كلّ مرة نسمع عنه أو نسمع كلامه، نتبعه. نذهب إليه وننظر إلى شخصه وأفعاله وآياته في الإنجيل. ثم نخبر عنه بفرحٍ، بالأفعال وشهادة الحياة، كما صنع تلميذا يوحنّا المعمدان.
2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الذبيحة الإلهية، وقد تركنا بيوتنا “وأتينا لننظر أين يقيم يسوع“. هو الآن هنا يكلّمنا ويعلّمنا بكلام الإنجيل وإيحاءات الروح القدس؛ ويقدّم ذاته ذبيحة تكفيرٍ وتعويض عن خطايانا، ويفتدينا بموته على الصليب، ويجلسنا إلى مائدة جسده ودمه، ليمنحنا الحياة الجديدة، ويشركنا بحياته الإلهية. ويطيب لي أن أرحّب بجميع المشاركين، وبخاصة بإقليم كسروان – الفتوح الكتائبي، رئيسًا وأعضاء. لقد أتيتم لتصلّوا معنا، ملتمسين النور السماوي، ومصغين إلى ما يقول لنا المعلّم الإلهي، يسوع المسيح، ما يجب أن نفعل للخروج من الأزمات الوطنية الراهنة: المؤسساتية والاقتصادية والأمنية. إنّ أول ما يدعونا إليه هو وعيُ هوّيتنا المسيحية والالتزام برسالتنا في العائلة والمجتمع والدولة. من هذه الدعوة اختار مؤسِّس حزبكم السياسيّ شعاره بثلاث كلمات: ألله، الوطن، العائلة.
3. ونشارك الكنيسة اليوم وطيلة هذا الاسبوع في الصلاة من أجل وحدة الكنائس. وقد بدأ أسبوع الصلاة مساء أمس بلقاء مسكوني للشباب، أحياه الاتّحاد العالمي المسيحي للطلبة. وسيقام مساء اليوم، في بيروت، إحتفال بصلاة مسكونية يشارك فيها رؤساء الكنائس في لبنان، بدعوة مشتركة من اللجنة الأسقفية للعلاقات المسكونية المنبثقة من مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، ومن مجلس كنائس الشرق الأوسط. وسيليه ثلاثية إحتفالات مسكونيّة في كلّ من شكّا وصيدا وختامًا لأسبوع الصلاة في سدّ البوشرية. أمّا موضوع التأملات والصلوات فكلمة بولس الرسول: “ألعلّ المسيح انقسم؟”(1كور1: 13). للتذكير بأنّ جسد المسيح واحد، وينبغي إعادة وحدته بالخروج من انقساماتنا التي هي جرح بليغ.
إنّنا ندعوكم للمشاركة في أسبوع الصلاة في الرعايا والأديار وفي بيوتكم ومن خلال وسائل الإعلام. إنّنا بذلك نواصل صلاة الرب يسوع إلى الآب: “يا أبتِ، ليكونوا واحدًا، كما نحن واحد. أنا فيك وأنت فيَّ. ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا”(يو17: 21). الوحدة عطية سماوية ثمينة، علينا أن نبنيَها يومًا بعد يوم، على أسس الحقيقة والعدالة والمحبّة. فمن الوحدة سلام العائلة والمجتمع والوطن.
ونصلّي من أجل وحدة المسيحيين على أساس معموديتهم والصليب. فمن المعمودية ولدنا أبناء وبنات لله الواحد، وأعضاء في جسد المسيح الواحد. وبصليب المسيح جُمعنا بالغفران والمصالحة، وأُسقطت كلُّ جدران العداوة، وأتُمنّا على خدمة المصالحة مع الله وبين جميع الناس.ونصلّي من أجل وحدة المواطنين في لبنان وبلدان الشرق الأوسط، فيتجاوزوا الخلافات والنزاعات بالحوار والتفاهم، وبحفظ حقوق الجميع وكراماتهم بالعدالة والإنصاف. إنّ رباط المواطنة يقتضي من الجميع بناء وحدتهم وتقويتها، لأنّهم يستمدّون منها قدرتهم وتطلّعات مستقبلهم.
إنّ ما جرى عندنا من أحداث أمنية مؤلمة في هذه الأيام الأخيرة ينذر بمنعطف خطير يُهدّد بفلتان خيوط الأزمة من أيدي مَن يظنّون أنّهم ممسكون بها. فلنصلِّ دائمًا إلى الله، كي يُقصّر بنعمته هذه الأيام(مر13: 20)، من أجل حماية وطننا وجميع المواطنين. ونواصل صلاتنا من أجل نجاح مؤتمر جنيف 2، والسلام في سوريا والمنطقة، ونهاية الحروب والنزاعات، بشفاعة أمّنا مريم العذراء، سيدة لبنان وسلطانة السلام.
4. “وسمع التلميذان كلام المعمدان فتبعا يسوع”(يو1: 37). لو لم يكن في قلب هذين التلميذَين، أندراوس ويوحنّا الحبيب، توق إلى يسوع، لَمَا وقعت كلمة المعمدان في قلبيهما، ولَمَا حرّكتهما لاتّباعه من دون أيّ تفكير سابق.
بالحقيقة التوق إلى المسيح، كأساس للبحث عنه، مطبوعٌ في قلب كلّ إنسان. هذا نعرفه من أطفالنا الصغار الذين يتعلّقون بيسوع، بمجرّد سماعهم اسمه من أمّهم وأبيهم. يحبّونه من كلّ قلبهم، قبل أن يعرفوه في شخصه وفي تعليمه. أهميّة العائلة أنّها تربّي على محبّة يسوع، وعلى الإيمان به، وعلى الصلاة إليه. فالعائلة كنيسة بيتيّة تنقل الإيمان وتعلّم الصلاة. يأتي من بعدها عمل الرعية والمدرسة والتقوى الشعبية، فتستكمل تربية الإيمان وتثقيفه، وتؤمِّن ممارسة الصلاة الجماعيّة، وتُهيِّئ للمشاركة في الأسرار.
كان يوحنا المعمدان يربّي تلاميذه بقوله ومثله وأفعاله على محبة يسوع، لا على محبة شخصه هو؛ كان يربّيهم ليكونوا للمسيح، لا له. إنّها أمثولة عظيمة في التجرّد لدى كلّ مسؤول في العائلة والكنيسة والمجتمع والدولة. فالمسؤول الحقيقي على المستوى الزمني، ل
ا يسترهن الناسَ لشخصه ولنفوذه، بل يحبّبُهم بوطنهم ومؤسّساته، ويُضحّي بكلّ شيء من أجل الخير العام، الذي منه يفيض كلُّ خير على جميع المواطنين، وبوفرة. أما عكس ذلك فيولّد الفقر والشّح والعوز. والمسؤول الحقيقي على المستوى الروحي، لا يسعى إلى كسب مُؤيِّدين له، بل يُضحّي بكلّ شيء من أجل أن يصل كلّ إنسان إلى المسيح، فتكون له الحياةُ الوافرة والسعادة الحقيقية والسلام. ما أسوأ المسؤول الذي لا يهمّه سوى تجميع أنصارٍ لذاته على حساب المؤسّسة والوطن، حفاظًا على نفوذه وتأمين مصالحه، فيما الشعب يرزح تحت الهموم التي تتآكله!
5. لمّا عاد التلميذان من عند يسوع، أخبر أندراوس أخاه سمعان: “وجدنا المسيّا” أي المسيح (يو1: 41). وللحال أخذه إلى يسوع،وسمعان توّاق لمعرفته واللِّقاء به. فقرأ يسوع مكنونات قلب سمعان، فنظر إليه، أي أحبّه واختاره، وبادره بوعد لرسالة جديدة: “أنت سمعان بن يونا، سأدعوك “كيفا” أي الصخرة (يو1: 42). وقد حقَّق هذه الدعوة في قيصريّة فيلبّس عندما أعلن بطرس إيمانه “بالمسيح ابن الله الحي”. فقال له يسوع: “أنتَ الصخرة، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها” (متى16: 18).
يعلّمنا البابا فرنسيس في إرشاده الرسولي: “فرح الإنجيل” أنّ إعلانَ سرّ المسيح وشخصه لا يُنقل دائماً بصيغ وكلماتٍ محدّدة وجامدة تعبّر عن مضمون لا يتغيّر، بل يُنقل بصيغ متنوّعة، وبخاصّة من شخص إلى شخص” (الفقرات 127-129) بالافعال والمبادرات والمواقف.
يوحنا المعمدان نقله بصورة الحمل الرمزية عن المسيح. اندراوس أعلنه “المسيّا”. سمعان – بطرس سيعلنه في قيصرية فيليبس “المسيح ابن الله الحي” (متى16: 16)، ثمّ على شاطئ بحيرة طبريا الشخص الذي “يحبّه حبًّا شديدًا”(يو21: 17). القدّيس شربل أعلن سرَّ المسيح بفقره وامّحائه، والقديسة رفقا بالمشاركة في آلام الفداء، والقديس نعمة الله بالتعليم اللاهوتي المعاش، والطوباوي أبونا يعقوب حداد الكبوشي بمحبته للمرضى والمتألّمين، والطوباوي الأخ أسطفان بالعمل المقدّس في الحقل وفي الدير. هؤلاء جميعهم احتجبوا أمام وهج يسوع المسيح، في هذه الدنيا، فرفعهم إلى مجد السماء بعد موتهم. الكنيسة والوطن يحتاجان إلى أمثالهم يتخذون قاعدة يوحنا المعمدان “علي ان انقص وعلى المسيح ان ينمو ويظهر”، علي ان انقص وعلى لبنان ان ينمو ويظهر.
6. إنّ الوجود المسيحي في لبنان وبلدان الشرق الأوسط، إنّما هو للشهادة ليسوع المسيح، فادي الإنسان ومخلّص العالم. نشهد لحقيقة الله والإنسان والتاريخ. ونشهد لمحبّة المسيح في حياتنا وأفعالنا ومؤسّساتنا، وفقًا للخطّ الذي يرسمه لنا الإرشاد الرسولي: “الكنيسة في الشرق الأوسط، شركة وشهادة”. هذه الرسالة المسيحية تستدعي منّا الصمود في أرضنا والتضامن بروح المسؤوليّة بعضنا تجاه بعض.
فليبقَ مرتفعًا من قلوب الجميع نشيد المجد والتسبيح لله الواحد والثالوث، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.