إنّ المدرسة التي كانَ ينتمي إليها نسطوريوس ، هي المدرسة الأنطاكيّة التي تختلفُ عن مدرسة خصمهِ ، بطل مجمع أفسُس ، وهو القديس كيرلّس ، وهي المدرسة الإسكندرانيّة . وكما قلنا في الجزء السابق (4) ، إن الأسلوبَ أو الخطاب اللاهوتيّ للمدرسة الأنطاكيّة كان (تصاعديّ – يشدّد على إنسانيّة يسوع )، مبيّنا دور نفس يسوع العاقلة خلافا للأبوليناريّة ، وهذا الخطابُ يبدو قريبًا من دور الفكر الحديث والمعاصر . بينما الأسلوب الخاصّ بمدرسة الإسكندرانيّة ، هو خطابٌ تنازليّ ، يشدّد على أنّ الكلمة صارَ جسدًا ، مركّزا على فعل ” التجسّد “.
وهنا يجبُ أن نتفحّص بدقّة ٍ وجه الخلاف القائم بين نسطوريوس وكيرلّس ، أي بين المدرسة الأنطاكيّة والمدرسة الإسكندرانيّة .
أولا : قضيّة اللغة والمصطلحات
أوّلُ مشكلة ٍ لم يُدركها الخصمان ، هي مشكلة ” لُغويّة ” ، ولا سيّما لفظةُ PHUSIS (طبيعة) ، و HYPOSTASIS (شخص) ؛ إذ إنّ الألفاظ الفلسفيّة لم تكنْ حينذاك واضحة المعالم والمعنى .
إنّ أصلَ لفظ phusis ، هو الفعل اليونانيّ PHUO ، ومعناهُ ” وُلد ” . فلفظُ PHUSIS (طبيعة ) ، يتميّز بالتالي بــ ” طابع عينيّ وجوديّ “. هكذا فهمها كيرلّس عندما تحدّث في ” الطبيعة الواحدة ” ( المنونوفيزيّة) ، قاصدًا ، من خلال هذا التعبير ، معنى ” شخص واحد ” hupostasis ، فكانَ نسطوريوس يرفضُ كلامَ كيرلّس هذا ، قائلا : إنّ ليسوع المسيح طبيعتين ، فاهمًا من لفظ phusis (طبيعة ) معنى لا عينيّا، بل شاملا ، ولا وجوديّا ، بل مجرّدا . (فكانَ الحقّ من جهتهِ ، ونحنُ نفهمُ لفظة ” طبيعة ” بهذا المعنى .
ومن جهةٍ أخرى ، كانَ نسطوريوس يدّعي ، أنّ يسوع المسيح ذو hupostasis (شخص) إثنين ، وكانَ يعني “
طبيعتين إثنتين” ، ولكنّه كان يستخدمُ لفظة hupostasis ، بمعنى يختلفُ عن معنى كيرلّس الذي كانَ يفهمُ اللفظ بمعناهُ اللغويّ الدقيق ، أي ” كائن ذاتيّ يقوم على ذاته ” ، أو ” كائن عينيّ “. (وكان الحقّ من جهته ، فنحنُ نفهمُ لفظ ” شخص ” بهذا المعنى. لذلكَ رفضَ كيرلّس تمامًا تعبير نسطوريوس.
هكذا نرى لاهوتيَين لم يتّفقا على المصطلحات التي كانا يستخدمانها ، وكلُّ منهما يفهمها بفهمهِ الخاصّ بدون أن يُدرك أصل خلافهما .
لهذا ، فإنّ معنى hupostasis ـ أحيانا تُكتَب hypostasis ، لاتعني كيانا حالة ً بل فعلا ، لا كيانا مستريحًا في ذاته ، بل كيانا ناشطًا (كما يقول اللاهوتيّ كاسبر) . فكانت اللفظة تناسبْ هكذا المعنى العلائقيّ المُعطى للشخص ، وما كانوا بعيدينَ عن إعتبار الأشخاص ( الأقانيم) الإلهيّة كعلائقَ كما فعلَ باسيليوس في الشرق وأوغسطينوس في الغرب . الشخص (الإقنوم) الإلهيّ ليس ذاتـــــًا ولا جوهرًا ، هو في الحقيقةِ ، مجرّد توجّه الواحد إلى الآخر ، مجرّد الحاليّة في العطاء والقبول المتبادلين ، إنه علاقةٌ قائمةٌ بذاتها .
ثانيًا : قضيّة المفاهيم
نرى هناكَ مشكلة ً أخرى عقّدت الأمور تعقيدًا ، وهي مشكلة المفاهيم . إذ كانَ نسطوريوس يستعملُ بدون تمييز تعابيرَ مجرّدة abstraites وتعابيرَ عينيّة concretes ؛ فللفظ ” الألوهيّة ” أو ” الإنسانيّة ” مثلا ، دلالةٌ مجرّدة وهي تعني الطبيعة الإلهية ، أو الإنسانيّة .. في حين أنّ للفظ ” الكلمة ” ، أو ” الإنسان ” مثلا مدلولا عينيّا ، وهو يعني ” الكائن القائم بذاته ” . فعدمُ تمييزهِ بين المفاهيم المجرّدة والمفاهيم العينيّة ، جعلهُ يفهمُ كلام كيرلّس على غير ما كان يقصدهُ.
فعندما قالَ كيرلّس : إنّ كلمة الله ” تألّم الموت لإجلنا ” ، قاصدًا إذا ، ” كائنا عينيّا ” .. فهمَ نسطوريوس إنّ الإلوهيّة الجوهرية تتغيّر ، قاصدًا إذن ” الطبيعة الإلهيّة المجرّدة ” . ولذلكَ ، رفضَ كلامَ كيرلّس وخطابه اللاهوتيّ هذا . إلى اليوم ، كثيرين من الناس يخلطونَ بين المستويين ، بدون ِ أيّ تمييز ٍ عندما يتكلّمون خصوصًا على آلام المسيح وموته ، فليسَ جوهرُ الله أو طبيعة الله هي التي تألّمت وماتتْ ، بل ذلكَ الكائن العينيّ يسوع المسيح ، الإنسان الله . هناكَ فرق إذن بين الطبيعة (الإلهيّة أو الإنسانيّة ) ، وبينَ الكائن (الإله – الإنسان ).
سنرى لاحقا الحلقة الثانية من الجزء الخامس من هذه المواضيع
وهي عن قضيّة الإيمان