إليكم أولاً إطار السؤال: أطلقنا منذ نحو 10 أيام صفحة على الفايسبوك تود أن تكون عونًا لمن يريد التعرف على الإيمان المسيحي بعنوان “أجوبة مسيحية” (www.facebook.com/christanswer). الأمر الملفت أنها تلقت الكثير من التعليقات، الرسائل العدوانية، والبريد غير المرغوب فيه (spam) . شخصيًا أتجاهل هذه الرسائل، وقد كتبت لي إحدى متتبعات الصفحة وهي أيضًا من صديقاتي سائلة: “لِمَ لا تجيب؟ هناك ما يقال في هذا الشأن! وأعرف أنك تعرف أن تجيب نظرًا لدراساتك واهتمامك الشخصي ليل نهار بمسائل الدين”.
لماذا لا أجيب؟
قلت أن الجواب سيكون شخصيًا، ولذا أبدأ بشعور شخصي أحمله في جعبتي منذ فترة. وقعت مؤخرًا، في سبيل المعرفة الشخصية على youtube على نقاشات بين ممثلين عن أديان مختلفة. هي جدالات تدوم نحو ساعة ونصف تقريبًا. بعد مقدمة مدير الجدال، يتكلم كل من المجادلين نصف ساعة، بعد ذلك يعود كل منهما ليتكلم لمدة عشر دقائق على التوالي للإجابة على تهجمات واعتراضات الآخر. مع كل احترامي للمشاركين في الجدالات وتقديري لثقافتهم الواسعة وفن الإلقاء، في بعض الأحيان بدا لي الحوار وكأنه صراع ديوك. كما وتواردت إلى ذهني صورة مضحكة أخرى، صورة مواء القطط. تلك القطط المزعجة التي تجلس تحت نوافذنا بعد الحادية عشرة والنصف من الليل وتبقى كذلك حتى الثانية والثالثة من هجعات الليل سارقة من أجفاننا النوم الثمين. أجدد اعتذاري الشخصي لمن يقوم بهذه الجدالات. لا أريد التقليل من احترام أحد. ولكني ساررت بانطباع شخصي طريف ورد إلى ذهني.
ورغم أني من دارسي نشأة الظاهرة الدينية، ولدي الكثير من الأجوبة العلمية والظواهرية في هذا الشأن، إلا أني أقول أحيانًا، وفي قولي شيء من الحسرة: “ما هو الدين؟ – هو عندما يضحي الحب دافعًا للكره”. بالطبع، هذا الجواب لا يعبر عن قناعتي، ولكن – للأسف – يعبر بعض الشيء عن واقع أليم. واقع يأخذه أعداء الأديان عامة للتهجم على الأديان فيقولون: “باسم آلهتكم سفك في العالم أكثر كمٍّ من دماء الأبرياء. نحن نرفض الآلهة المضرجة بالدماء. سلام وحب (peace and love)”.
بالعودة إلى الجدالات أعلاه، ألاحظ أمرين:
— الأول، أن ليس هناك بين المتجادلين نقاط قِيَمِيّة أو لغوية مشتركة، الأمر الذي يؤدي إلى لغط يُسمى بالعامية اللبنانية “جدل بيزنطي”، أي جدل لا مخرج منه. وذلك لأن الواحد يستعمل إحدى الكلمات بمعنى والآخر بمعنى مغاير تمامًا. وغالبًا ما يعرفون المتجادلون أن مقصد الآخر هو “ألف” ولكن بما أنه خير له أن يظهر مقصد الآخر وكأنه “ياء”، يعتمد ذلك ويهاجم من هذا المنطلق. فعلهم هذا يشبه ما يقوم به السياسيون. يبينون ما يريدون ويفهمون من الآخر ما يبغون، دون الولوج في حوار حقيقي، حوار يتطلب الإصغاء والمصداقية… لا أريد بهذا القول بأن الاختلافات بين الأديان هي لغوية وحسب، ولا حتى أن أقول أن كل الأديان مثل بعضها. لا، لا أقول هذا البتة. ما أريد أن أقوله هو أنه لا يمكن تحويل الكون، ونقد ونقض دين في جدال ساعة ونصف فقط. لو كان هذا الدين، وأعني أي دين، سخيفًا لهذه الدرجة، لما كان تبعه ملايين لا بل مليارات المؤمنين، ومن بينهم بحاثة ومعلمين. كما وأنه لا يمكننا أن نبرهن عن حقيقة إلهنا بساعة ونصف فقط!! الحياة الدينية هي حياة معاشة، وعند سؤال تلميذي يوحنا ليسوع عن ذاته وهويته (من خلال السؤال الرمزي “أين تقيم؟”) لم يُجِب يسوع بمناظرة، بل دعاهما للقيام بخبرة: “تعاليا وانظرا”.
— الثاني، وهو أمر لا يمت إلى جدية البحث عن الحقيقة بشيء: ألاحظ أن المجادلين يسعيان، كل على طريقته، لكي يغلب الآخر بالتلاعب على المشاعر وبإظهار جزء صغير جدًا من الواقع يبين وجهته ونظرته. هذا ليس محبة بالحق. هذا احتيال. والاحتيال لا يمت إلى الحق بصلة. أقول لهؤلاء المتفلسفين: لا يمكنك أن تكسف شمسًا بمنخل أو أن تخبئ جبلاً وراء إصبع.
إضافة إلى كل هذا، بما أني درست بشكل معمق فكر الكاردينال جون هنري نيومان (John Henry Newman) تعلمت منه أن العقل الذي يلج في الدين ليس فقط العقل الحسابي أو عقل المنطق المجرد، بل هو عقل متجسد، عقل يمر من خلال الأحاسيس، عقل يمر من خلال الخبرة، عقل يمر من خلال “تأمل الأمور في القلب” مثلما كانت تفعل أمنا مريم العذراء. وقد كان لنيومان جدال مطول عبر سلسلة طويلة من الرسائل مع أخيه تشارلز-روبرت، وبعد جدالات لامتناهية أنضج نيومان فكرته ورأيه بهذا الشأن فكتب لأخيه شارحًا أنه أدرك أن عدم الإيمان لا يأتي من العقل، بقدر ما يأتي من القلب (وكذلك الإيمان). والقلب المستعد يرى جيدًا حتى في بصيص نور خفيف، أما القلب غير المستعد فلا يرى ولو حتى في وضوح شمس الظهر.
ولذا، ملخص القول: لا أدخل في ترهات ودهاليز ومتاهات الجدالات الدينية للأسباب التالية:
– أولاً، لأن هذا طبعي. وهذه الجدالات تملني كثيرًا جدًا.
– ثانيًا، لأني أؤمن أن الله لا يدعونا للقيام بأعمال ترضيه إذا كانت مغايرة كليًا لأطباعنا العميقة والصافية. ولذا لا أعتبر هذا النوع من الجدالات دعوتي.
– ثالثًا، لأني لا أؤمن أنه إذا أبكمت أو أفحمت الآخر بالبراهين والحجج تربح قلبه. المحبة لا تفرض نفسها. وهناك قول بالعامية اللبنانية يقول: “حبني وخود جحش. والجواب: المحبة ما بتجي دحش”. فحنكتك قد تُفحِم الآخر ولكنه لا تستطيع أن تُقحِمه في الإيمان. فلنذكر أن الإيمان نعمة من الرب!
– رابعًا، لأني أؤمن أنه إذا شاء الرب أن يرد شخصًا، لا يرده من خلال الجدالات والصراعات الدينية، بل برفق وبمسيرة سلمية. ف
الإيمان لا يأتي من تباين (هذا أفضل من هذا. وهذا البرهان يميل إلى هنا وذاك يميل إلى هناك. واليوم أنا مسيحي 60 %. أمس كنت بوذيًا 54 %)، بل من إشعاع الحق في القلب (كما تقول عروسة الأناشيد: “وجدت ذلك الذي يحبه قلبي. وجدته ولن أتركه”. هو حب والحب كلي، لا يقبل الشرك!).
– خامسًا، لأني أفضل قضاء وقتي بتسبيح الله ومحبته وبالتأمل بهباته، بدل أن أحارب إخوتي باسمه، اسم الحب والسلام!
اسمحوا لي أن أختم ببيت من أشعار ابن عربي:
أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ ركـائـبهُ ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني
نعم، ديني دين الحب، دين “الله محبة” الذي كشف نفسه في وجه يسوع المسيح. في تبيان هذا الحب في القول والفعل سأقضي حياتي على الأرض.