أسس الرب يسوع هذا السر (الإفخارستيا) لان به يتم الثبات فيه “من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه” (يو6 : 56) وبه ننال الحياة الأبدية “أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء إن أكل احد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي ابذله من اجل حياة العالم” (يو6 : 51).
وقد قال الرب للتلاميذ “هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم، اصنعوا هذا لذكري” (لوقا 22: 19) قال هذا للرسل وهم مجتمعون معه في العلية يوم خميس الفصح… وهذا ما يستشهد به القديس بولس حينما يقول: “كأس البركة التي نباركها، أليست هي شركة دم المسيح؟! الخبز الذي نكسره، أليس هو شركة جسد المسيح؟ (1كور 10: 16) فقال: “نبارك ونكسر”، دليل على الفعل، وقال “شركة دم المسيح” دلالة على قدسية هذا الأمر وأنه سر مقدس.
لقد كان موت يسوع أساس لنشأة الكنيسة، فهو قد أعطى نفسه، عندما قال لرسله في العشاء السري: “هذا هو دمي، دم العهد الجديد، الذي يهرق عنكم وعن الكثيرين لمغفرة الخطايا” (متى 26: 28، لو 22: 30). فقبل أن يغادر يسوع الجماعة التي أنشاها ترك لها في الافخارستيا سر حضوره الشخصي. فتقدمة يسوع ذاته كاملة في جسده ودمه على الصليب، تصبح حاضرة في هذا السر. فالمسيح في كل كيانه يصبح حاضراً حضوراً سريّاً في وسط جماعته في الخبز والخمر. وعلى التلاميذ أن يعيدوا دائما هذا الحضور لكي ما يشتركوا في تقدمة يسوع ويجسدوها في حياتهم. وبواسطة هذه التقدمة الأبدية وهذا الاشتراك فيها يستمر عهد الله مع البشر حتى نهاية الزمن….
من البداية واظب المسيحيون الأوائل على الاجتماع وكسر الخبز الذي علق عليه الكثير من الأهمية لأنه أمانة لوصية المسيح (اصنعوا هذا لذكري) وأيضا كان فرصة لتقاسم الخبرات وسماع كلمة الله. وإلى اليوم نرى هذه الافخارستيا علامة حية تعيشها الكنيسة لتعبر عن سر محبة المسيح للعالم. فالافخارستيا هي ينبوع حياة الكنيسة، إنها سر أساسي من أسرار الكنيسة، في الحقيقة، إنها أساس استمرارية الكنيسة.
الافخارستيا هي سر جسد المسيح فالجسد هو التعبير عن الحضور، والإنسان يصبح قادرا على الاتصال بالآخرين من خلال جسده، فيغتني بحضورهم ويغتنون بحضوره. والمسيح يحضر في كنيسته ويحضر في العالم من خلال كنيسته (جسده)…
إن الافخارستيا تحول الكنيسة إلى قربان محبة مع المسيح. فالافخارستيا هي سر المسيح الذي يعطي ذاته في سبيل أحبائه. ولكن، هذا السر، الذي يعيد حضور حقيقة المسيح، الذي أعطى ذاته، لن يصل إلى ملء حقيقته اليوم إلاّ من خلال المسيحيين الذين يتناولون جسد ودم المسيح في سر عطائه ليصيروا به على مثاله جسداً مبذولاً ودما مهراقاً من أجل حياة العالم. فشركة الحياة مع الله ووحدة شعب الله هما قوام الكنيسة، وإليها ترمز الافخارستيا وبها تتحققان. والافخارستيا هي قمة العمل الذي به يقدس الله العالم في المسيح….
ففي اجتماع المؤمنين حول مائدة عشاء الرب (الافخارستيا) هو ما يجعل سر المسيح – الملكوت حاضراً في ماضيه (حياته موته وقيامته) وحاضره (حضوره الحي وسط الكنيسة بالروح القدس) ومستقبله (مجيئه الثاني)، عمل يكوّن الكنيسة – الملكوت على صورة المسيح. فالكنيسة باشتراكها في سر المسيح تصير على صورته ملكوت المحبة والمسامحة وعطاء الذات، داعية جميع الناس للدخول إلى هذا الملكوت…
هكذا نعرف، بان لا كنيسة حقيقية، إلا إن اجتمعت حول مائدة الرب، لتتناول جسد ودم الرب نفسه، وان لا مسيحي حقيقي، إلا إن كان يؤمن حقيقة أن لا حياة أبدية له ولا إيمان حقيقي له، إلا بالإتحاد بربه يسوع من خلال الإفخارستيا.. بالتأكيد هي ليست عملية إعتباطية وآلية وروتينية تتم كل يوم، وانما هي فعل إيمان وقناعة حقيقية، تعاش في الصلاة الافخارستية وفي الحياة العملية على أساس من المحبة الحقيقية….
………………………………………………………………………………..
1- التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، تعريب المتروبوليت حبيب باشا وآخرون، المكتبة البولسية ، لبنان، 1999.
2- المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة، ترجمة الأب حنا الفاخوري، منشورات المكتبة البولسية، لبنان، ط1، 1992.
3- المسيحية في عقائدها، نشرة مجلس أساقفة كنيسة ألمانيا، تعريب المطران كيرلس سليم بسترس، سلسلة الفكر المسيحي بين الأمس واليوم، منشورات المكتبة البولسية، ط1، لبنان، 1998.
4- اللاهوت والكنيسة، اللاهوت والكنيسة، فالتر كاسبر، تعريب المطران يوحنا منصور، سلسلة الفكر المسيحي بين الأمس واليوم، منشورات المكتبة البولسية، ط1، 2006.
5- اللاهوت المسيحي والإنسان المعاصر، ج2، الأب سليم بسترس، سلسلة الفكر المسيحي بين الأمس واليوم، منشورات المكتبة البولسية، لبنان، ط3، 2002.
6- دليل إلى عيش أسرار الكنيسة السبعة، فيليب بيغري وكلود دوشينو، تعريب الأب صبحي حموي اليسوعي، دار المشرق، لبنان، ط1، 2003.