1. بتجسّد ابنِ الله يسوع المسيح، دخل اللهُ إلى عالم البشر في شركة عضوية لخلاص كلِّ إنسان يولد لامرأة، واتّحد بكلّ إنسان. هذا الدخول الإلهي العضوي والخلاصي يُسمّى ملكوت الله. بالمعموديّة من الماء والروح وُلدنا من جديد، ودخلنا في شركة اتّحاد بالله الذي تحدّث عنه الرب يسوع مع نيقوديمس: “ لا أحدَ يقدرُ أن يدخلَ ملكوتَ الله، ما لم يولدْ من الماء والروح”(يو3: 5). هذا الاتّحاد العمودي بالله، وهو غير منظور، يصبح منظورًا ونراه في الوحدة الأفقيّة فيما بيننا ومع جميع الناس، كما واصل الربُّ يسوع في حديثه: “لا أحد يقدر أن يرى ملكوت الله ما لم يُولد من جديد”(يو3: 3). هذا هو ملكوت الله: شركة إتّحادٌ بالله ووحدة بين الناس. إنّنا نصلّي لكي نظلَّ أوفياء لمعموديّتنا، فنحافظ على اتِّحادنا بالله بواسطة الصلاة وممارسة سرَّي التوبة والقربان، ونشدِّد دائماً روابط المحبّة والوحدة بين المسيحيِّين ومع جميع الناس.
2. يسعدنا أن نحتفل معاً بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، ونحن نختتم اليوم أسبوعَ الصلاة من أجل وحدة المسيحيّين ووحدة الكنائس، ومن أجل نجاح العمل المسكوني الرامي إلى بناء هذه الوحدة وجعلِها كاملةً بعمل الروح القدس. لقد كان أسبوعُ الصلاة بمثابة تعبئة روحية من أجل عيش الاتّحاد بالله، بحياةٍ مسيحيّةٍ صالحة تلتزم الممارسة الدينية، ومن أجل الانطلاق بروح المسؤوليّة إلى بناء الوحدة بين الجميع على مستوى كلٍّ من العائلة والمجتمع والكنيسة والوطن. وهكذا نعيش “المسكونية الروحية التي هي روح العمل المسكوني الحقيقي“(راجع الارشاد الرسولي: الكنيسة في الشرق الاوسط، 11).
3. وكما نصلّي من أجل الوحدة الكنسية، نصلّي أيضًا من أجل الوحدة الوطنية لكي يعضدَنا الله بروحه القدّوس، “الروح الذي يجمعنا”، للخروج من الانقسامات والخلافات، في كلّ مستوياتها، بحوار الحقيقة والمحبة، وبالتفاهم والمصالحة، وبخطوات متبادلة الواحد نحو الآخر، ولكن برغبة صادقة في إعادة بناء الوحدة الوطنيّة، من أجل الخير العام، وخير الجميع. ما يستدعي إسقاطَ جميع الأحكام المُسبقة الظاهرة في الإدانة والاتّهام والتخوين، ووضعَ مصلحة الشعب، وحُسنِ سير المؤسّسات الدستورية فوق كلّ اعتبار، ولا سيّما تأليف حكومة قادرة تكون على مستوى التحدّيات الراهنة، وبخاصّة الإعدادِ لانتخاب رئيس جديد للجمهوريّة في موعده الدستوري، واستعادةِ ثقة الشعب اللّبناني بالمسؤولين السياسيّين وقد بدأ يفقدها. وهذه طعنة مؤلمة في قلبه، هو الذي انتدبهم لخدمة الخير العام وإحياء المؤسّسات الدستوريّة والعامّة، وازدهار البلاد.
من اجل كل هذا نصلي اليوم، ونذكر بصلاتنا كل واحد منكم وعائلاتكم، وموتاكم. واحيي موطفي شركة “باك” الذين نتابع قضيتهم، ونأمل ان يلقوا كل حقوقهم المشروعة. ونشكر جوقة “الفريق الروحي” التي تحيي هذه الليتورجيا الالهية.
4. وكم يؤلمُنا عندما نستقبل وفوداً من مختلف المناطق يأتون إلينا ويشكون همّهم، ويطالبوننا بالتدخّل لدى المسؤولين السياسيّين، من وزراء ونوّاب: هنا للكفّ عن تمويل المقاتلين وخراب حياة المدينة والمجتمع، وهناك لبتّ قضايا إداريّة مُحقّة وضروريّة لحياة الناس، وهنالك لإيقاف مشروع مفروض قسراً ينذر بخطر على البيئة والبلدة؛ وآخرون يطلبون وساطتنا لتنفيذ أحكام قضائيّة وإداريّة صادرة ولا تنفَّذ، وآخرون لتنفيذ حقوق في تعيينات، وآخرون لرفع الاعتداء على ممتلكاتهم من قِبَل الغير، وآخرون للحدّ من التحايل والإغراءات لشراء أراضيهم، وآخرون للحدّ من الرشوة وطلب المال كشرط لتصريف معاملة إداريّة. وغيرهم وغيرهم، بالإضافة إلى العديد من الذين يطلبون المساعدة لسدّ عوزهم،وفقرهم ولإيجاد فرص عمل لإعالة عائلاتهم ولحفظ أولادهم على أرض الوطن. والمؤسف المؤلم هو أنّ كلّ هذه التجاوزات مغطّاة سياسيّاً، وتحتاج إلى “قرار سياسي”، كما يقولون.
ترى! هل يشعر المسؤولون بكلّ هذه الآلام؟ هل يدركون أنّ الدولة ومؤسّساتِها هي أوّلاً وآخراً في خدمة المواطنين والشعب كلّه؟ نأمل ذلك. وليُرسلْ لنا الله أشخاصاً مسؤولين حقًا، يكونون حسب رغبات قلبه، كما وعد على لسان إرميا النبي: “عودوا إليَّ أيّها البنون، يقول الربّ، وأنا أعطيكم قادة على وفق قلبي، فيرعونكم بعلم وفطنة”(إرميا 3: 14-15).
5. “لا أحدَ يقدر أن يدخل ملكوت الله، ما لم يولدْ من الماء والروح” (يو3: 5).
أجل، أدخلتنا المعمودية في ملكوت الشركة مع الله، فأصبحنا أبناء وبنات لله بالابن الوحيد يسوع المسيح، وهياكلَ للروح القدس، إذ أُزيلت الخطيئة الأصليّة الموروثة من أبوينا الأوَّلَين، آدم وحواء، وغُفرت الخطايا الشخصيّة، وقبلنا الحياة الإلهيّة، وهي الحياة الجديدة التي أُفيضت على العالم من موت المسيح وقيامته. لقد أصبحنا في حالة اتّحاد بالله، ينبغي المحافظة عليها بالصلاة وممارسة الأسرار، ولا سيّما التوبة والقربان.
وأدخلتنا المعمودية أيضاً في ملكوت الشركة مع بعضنا البعض ومع كلّ الناس، لأنّنا أصبحنا أعضاء في جسد المسيح الواحد، الذي هو الكنيسة، فصرنا جماعة المدعويّن إلى عيش الوحدة على قاعدتَي الحقيقة والمحبة. هذه الوحدة فيما بيننا نرى من خلالها إتّحادنَا غيرَ المنظور بالله: “لا أحد يقدر أن يرى ملكوت الله، ما لم يُولد من جديد”(
يو3: 3).
6. واكتملت مفاعيلُ المعمودية هذه بمسحة الميرون، المعروفة بسرّ التثبيت، إذ بحلول الروح القدس علينا أصبحنا مسيحييّن شركاء في وظيفة الربّ يسوع المثلَّثة: النبويّة والكهنوتيّة والملوكيّة، وأصحابَ كيانٍ جديد ملتزم برسالة المسيح والكنيسة.
يشارك المعمّد في الخدمة النبويّة، لأنّ المسحة تؤهّله لكي يقبل الإنجيل ويشهدَ له بحياته وإيمانه وكلامه وأعماله، وبتنديده الجريء بالشرّ، وبثباته وسط المحن والمصاعب. فتصبح جدّة الإنجيل ثقافة مسيحيّة.
ويشارك في الخدمة الكهنوتيّة عندما يواصل تقدمة المسيح القربانيّة لمجد الله وخلاص البشريّة، عبر قرابينه الروحيّة: أعماله الحسنة وآلامه وأفراحه وأشغاله اليوميّة المستقيمة ونشاطاته الرسوليّة والاجتماعيّة، التي يمارسُها بروح الله ويضمُّها إلى قربان المسيح الأسمى. ويرفعُها بكلّ تقوى إلى الآب فعل عبادةٍ له.
ويشارك في الخدمة الملوكيّة بنشر ملكوت الله في مجتمعه، وهو ملكوتِ النعمة والحقيقة، ملكوتِ المحبة والعدالة، ملكوتِ السلام وحرية أبناء الله. فيقوم بصراعٍ روحي لتدمير سلطان الخطيئة والشر. ويتكرّسُ لخدمة المحبة والرحمة تجاه جميع الناس، ولاسيما الفقراء والضعفاء، المعروفين “بأخوة المسيح الصغار”(متى 25: 40). ويُخضع الخلق كلّه لخير الإنسان، بقوّة نعمة المسيح القائم من القبر(الإرشاد الرسولي: العلمانيون المؤمنون بالمسيح، 14).
7. الجماعة المسيحية هي جماعة المعمّدين الملتزمين بهذه الرسالة، الذين يدعوهم المسيح ويرسلهم ليكونوا في مجتمعاتهم وأوطانهم مثل “الملح في الطعام والخميرة في العجين والنور في الظلمة”(متى 5: 13؛ 13: 33 5: 14). فيُجروا فيها تحوّلاتٍ ثقافية وسياسية، من دون سلاح وقوّة وثورة وعصيان، بل باحترام الانسان وكرامته وحريته وتطلعاته. يوجد في التاريخ شواهدُ عديدة حوّلت مجراه. لم يقم المسيحيون بعملية التغيير من الداخل، من خلال المواجهة المباشرة مع السلطات السياسية، بل عبر تبديل القيَم، وبالتصرّفات الأخلاقيّة. إنّ تعليم يسوع المسيح في الانجيل إنّما يهدف إلى التغيير الداخلي في حياة المجتمع البشري، وبالتالي هو تعليم ذو قدرة سياسية.
فلنفكِّر بالتغيير السياسي الذي يجريه قداسة البابا فرنسيس بخطابه الروحي ومسلكه المتجرِّد والمتواضع؛ وبالتغيير السياسيّ الكبير الذي أجراه الطوباوي البابا يوحنّا بولس الثاني، وكيف أسقط جدار برلين والنظام الشيوعي في أوروبّا. في إرشاده الرسولي “رجاء جديد للبنان“(10 أيار 1997)، عندما تحدّث هذا البابا القديس الكبير عن إلتزام المسيحيين في الحياة السياسيّة، دعاهم إلى الالتزام بمفاعيل معموديّتهم النبويّة والكهنوتيّة والملوكيّة، التي ذكرناها.
8. لقد ترك المسيح لجميع الناس القاعدة الذهبية التي تغيّر وجه كلِّ مجتمع بشري وهي: “إفعلوا للناس ما تريدون أن يفعل الناس لكم. هذه هي كلّ الشريعة والانبياء”(متى7: 12). أجل، هذه هي قاعدة التغيير الذهبية: ضع نفسك مكان الآخر، واسأل ذاتك كيف تريد أن يعاملك، وعامله أنتَ بهذه الطريقة نفسها.
إنّنا بالرجاء نتطلّع إلى أناس مسؤولين يرسلهم الله إلى أوطاننا يتبعون هذه “القاعدة الذهبية”، من أجل بناء جماعة جديدة تزرع في النفوس الأمل بمستقبل أفضل. فلنكن كلُّنا هذه الجماعة الجديدة التي ترفع نشيد المجد والتسبيح للإله الواحد والثالوث، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.