وديع الصافي بشير العائلة في الفن المعاصر (1)

مقدمة

Share this Entry

    سنتعرّف في هذه المقالة الأولى والتي هي واحدة من سلسلة مقالات، إلى شخصيّة فنّية قلّ نظيرها في عالم الفنّ والإبداع، إنّها حالة إستثنائيّة بإمتياز، في وضع إستثنائيّ. وما فرادة هذه المقالات إلاّ لأنها تسلّط الضوء بشكل أساسيّ على موضوع الحبّ الزوجيّ وعلاقته مع الإيمان في ألحان وديع، التي حملت في حناياها لواء العائلة، إختبرها الفنان وديع وقدّمها الى العالم بجماليّة راقيّة متميّزة. سنتعرّف في هذه المقالة على نقطتين إثنتين : 1) الخطوط الأساسيّة في ثقافة وديع؛ 2) وقيم سر الزواج الذي قدّمه في بعض أغانيه (ونحن إنتقينا بعضاُ منها). وما بحثنا إلا لتقديم طريقة جديدة لفهم الإيمان من خلال تراثنا المشرقي وتحديداً اللبنانيّ الذي غناه وأنشده وديع.

1.    بعض الخطوط الأساسيّة في ثقافة وديع الصافي

 «ليس الكل مدعواً إلى أن يكون فناناً بالمعنى الحصري للكلمة. مع ذلك، وبناء على عبارة سفر التكوين، فقد أوكِلتْ إلى كل إنسان مهمةُ أن يكون صانعاً لحياته عينها: ينبغي عليه، بمعنى ما، أن يجعل منها نتاجاً فنياً، [بل] تحفة»[1]. بهذه الكلمات المعبّرة توجه الطوباوي يوحنا بولس الثاني برسالته الغنيّة بمعانيها الى أهل الفن، يحضهم فيها على أن يسهموا مع الخالق في إضفاء لمسة سماوية في أعمالهم الفنيّة، ووديع هو واحد من الفنانين العباقرة الكبار، الذين لبّوا دعوة الله في عالم الجمال، فصنع نفسه بمعونة الروح القدس، ليغدو تحفة لا بل أنشودة رددت صداها في ربوع لبنان وستظل شعلة تتناقلها الأجيال على مرّ التاريخ. غنى وديع «الحب الزوجيّ» الذي إختبره في حياته الزوجيّة، وتحديداً الزواج المسيحيّ. فصار الزواج المقدّس مصدر وعي وإلهام فنيّ وقبس سماويّ، خططته ريشة عوده وأنشده صوته العذب، ناقلاً  لعالم الأسر، رسالة الحبّ الواقعي. ولأن الذات لا تتحقق إلا بقدر ما تكشف عن عمق تفاعلها بالحقيقة التي تؤمن بها فتتجلى في الأعمال الأخلاقيّة[2] ولاسيّما الفنيّة، ويدمج الشخص حميميّته الفاعلة مع العالم المحسوس[3]، لذا من هذا المنطلق عرف الصافي، كيف يدمج حميميّة لقائه بالله المحبّة الذي  إختبر فعاليّة حضوره المقدّس في ذاته ومع شريكة حياته وأسرته، فنقله الى وسط فنّه مقدّماً إياه بأبهى تجليّاته الإبداعيّة الذي يُعدّ من أرفع حاجات الروح وأسمى مطالبه، مقدماً لإنسان اليوم حقيقة الإيمان الفاعل بالمحبّة في واقعيّة الوجدان الإنسانيّ، فـــ«ما من حبٍّ حقيقيّ إذا لم يكن هنالك وعيّ لأنّ “الله محبّة”، ولأنّ الإنسان هو الخليقة الوحيدة على الأرض، التي دعاها الله إلى أن توجد “لذاتها”. والإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله لا يمكنه أن يوجد وجوداً كاملاً إلاّ ببذل ذاته بذلاً مجرّداً»[4]. ومن هذا الوعيّ للحبّ –  العطية نقل وديع إختباره الإيماني لسرّ الله المعتلن في سرّ الزواج المقدّس، من خلال أغانيه الى آذان سامعيه بصفاء فدخلت الى قلوبهم دون إستئذان، مُريداً بذلك أن «يُعين الإنسان على وعي ذاته… ويظهر أمام ذاته كما هو… ويكون مهيأً لسماع الحكمة وصوت العقل والمنطق»[5] بطريقة بسيطة وعميقة في آن معاً «فالله الذي أعطي لنا، هو البداية والنهاية، الطريق والهدف، صار معروفاً»[6] وسط حياة المؤمنين ولاسيّما في إبداعاتهم الإنسانيّة التي تأخذ أشكالاً متعدّدة، ومن بينهم الفن، وحياة المؤمن الفنّان وديع لهي فسحة تظهر للعيان علاقته بالله المحبّة، التي نسمعها صداها العابق بالجمال والذوق، يتصاعد كالبخور بين الكلمات والألحان، تعبّر عن إيمان وديع وإعجابه في الحبّ الزوجيّ المتّحد بسرّ الحبّ الإلهيّ، لذا سننتقل الى أجمل ما غنّى وديع [وهم كثر]، حيث سنكتشف عبقرية الفنان وديع، كيف جمع قيم الإيمان مع الحبّ الزوجيّ في أغانيه وألحانه.

2.    سرّ الحبّ المقدّس في ألحان وديع الصافي

 نقل وديع للسامع إندهاشه بديناميكيّة الحب بين الرجل والمرأة، النابعة من قضية واحدة، أي الحبّ قضيّة الأنبياء «أي نبي بالحب ما بشّر؟»[7].  أمّا الميزة  الأساسيّة لهذا الحبّ أنّه حبّ يبغي الديمومة واللاإنحلاليّة والشركة، حبّ مضحّي، يفني ذاته من أجل الآخر، وهذا ما تعلنه حياة الأسرة، حيث يغني وديع [زوجته- الأم] التي يراها «تقضي الليل راكعه ع سرير طفل زغير»[8] عظمة سماويّة جعلت من العناية الوالديّة «صلاة ركوع وسجود» لله المحبّة. وها بدوره يتأمل  سرّ أبوّته فيسائل السامع عن الدافع الذي يجعل من «البي يحمل ويل، ويتعب ويشقى ويعطي كتير»[9] إنه سرّ الحبّ الزوجيّ، المتّحد برسالة الأنبياء، التي تعلن أن الله المحبّة. الحبّ جعل من الزوجين فعل عطاء وتضحية دائمة، لأنه هو من «… خلّى الوالده تسهر، خلّا حنان البي يتفجر…»[10]، فما بين مفهوم «العناية المصلّية» و«حنان الأب المتفجّر»، نرى شهادة الإيمان مرسومة في الحياة العائليّة، يقدمها وديع أيقونة تحاكي الجميع وتدعو الجميع للتأمل في سر الحبّ الذي خلقه الله وطبعه في قلب الإنسان، الذي يتمظهر بحصرية  وتفان يتجلّى في البيت والعناية بالأولاد، من خلال نقل القيم  وأهمها العطاء والتضحية والمقداميّة، و«الوفى، والصدق، والإحساس…»[11]. والجميل في أغاني وديع، أنّه قدّم الغفران والمسامحة في الحياة الزوجيّة بطريقة جماليّة قل نظيرها، غفران مستمد من إيمانه بالمسيح يسوع،  فها نسمعه يغني «دق باب البيت ع السكيت»[12] أغنية تتكلّم عن ثقافة الغفران، تدعو الأزواج للتأمل بقيمة المصالحة والمغفرة، والإقرار بالخطأ، ومدى قبول الشريك الخاطىء وحضنه وتشجيعه، فبعدما ذاقت الحبيبة مرّ الإبتعاد عن الحبيب وعن بيته، تعترف أمامه أن فراقها كان بمثابة «جحيم وعدم من نار…»[13] فهي مستعدة أن تقبّل يد الزوج بدموع التوبة فتقول لزوجها: « دفعِت الندم عل البعد وتربيت»[14] وعند هذا المشهد العميق والمؤثّر يقوم الحبيب- الزوج بمسامحة زوجته، معيداً لها «مفاتيح البيت»[15] أي مفتاح قلبه وبيته، لأنّ من تعلّم ثقافة الغفران والمسامحة لا يمكنه أن يتنكّر لها فـــ« قلب الحبيب مهما قسي بيضل بيتذكر ليالي حبيبو الماضيي، نظرة عتب لا أكتر ولا أقل بترجع قلوب الحبايب راضيي… »[16].  وبهذا الفعل الحي، تتحوّل الحياة الأسريّة الى شهادة إيمان وشعاع حبّ من الله المحبّة. فتصان الحياة الأسريّة في جوٍّ الحب والمسامحة والغفران، ويتحوّل البيت الى مدرسة طبيعية والى كنيسة بيتيّة، يتربّى فيها الجميع على عيش الفضائل الإنسانيّة والمسيحيّة.

خاتمة

قدمنا لك أيها القارىء العزيز، بعض ومضات جماليّة مقتبسة من كنز وتراث المرحوم العملاق وديع الصافي. الذي عرف كمؤمن وزوج وأب وفنان، أن يدمج الإيمان المسيحيّ في ألحانه وصوته، فجدل تاج حياته ووضعه بفخر على هامة السيد المسيح. فغدا المرحوم وديع نموذجاً حيًّا في عالم اليوم وبشير الحب الزوجيّ، وقدوة للفنانين ولاسيّما المسيحين منهم، أن يقتدوا على مثاله، فيبني كل واحد بحسب موهبته، ثقافة الحبّ المقدّس والحقيقي والواقعي وليس العكس، خدمة جليلة تُقدّم للعائلة ولكل إنسان مهما كان لونه وإنتماؤه وثقافته. وإلى اللقاء في المقالة الثانية، التي سنتناول موضوع “وصيّة الأب المؤمن لولده في موضوع الزواج”.  

[1] – البابا يوحنا بولس الثاني، رسالة الى أهل الفن، فقرة 2.

[2]–  Karol Wojtyla, Personne et Acte, p 186

[3]Idib,p 218

[4] – البابا يوحنا بولس الثاني، رسالة الى الأسر، فقرة 13.

[5] – سرمك حامد، فلسفة الفن والجمال الإبداع والمعرفة الجماليّة، ص 210.

[6] – Ratzinger Joseph, Présentation, p 12, Jean Paul ІІ, Triptyque romain (Méditations)P Ed: Fidélité; F-B-Q 2003.

[7] – “الحب هالحرفين مش اكتر”، أغنية من تأليف الشاعر مارون كرم، وألحان وديع الصافي

[8] – المرجع ذاته.

-[9] المرجع ذاته.

[10]– المرجع ذاته.

[11] – الشاعر مارون كرم، ألحان وديع الصافي.

[12] – كلمات الشاعر مارون كرم، ألحان وديع الصافي.

[13] – المرجع ذاته.

[14] – المرجع ذاته.

[15] – المرجع ذاته.

[16] – المرجع ذاته. 

Share this Entry

الخوري جان بول الخوري

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير